عبد القادر فلالي: أمريكا القبيلة.. أمريكا الحقيقة


عبد القادر فلالي: أمريكا القبيلة.. أمريكا الحقيقة

عبد القادر فلالي

"الحضارات العظيمة لا تُغزى من الخارج حتى تُدمر نفسها من الداخل".(مقتبسة من فكر ابن خلدون)

بإيجاز تام، سوف يُلخص ابن خلدون أمريكا اليوم قائلا إنها"أمريكا القبيلة" ونضيف نحن إنها أمريكا الحقيقة. قبيلة صنعت عصبيتها شاشاتها الكثيرة، وأسلحتها الوفيرة.بعبارة أدقفإن طبيعة العمران البشري الأمريكي وتمثلاته رسخته شُحنة الشاشات الضخمة ل"هوليوود" وتمريرها خطاب العصبية المرن، والمجمع الصناعي العسكري الذي يمرر خطاب العصبية الخشنة الصلبة ("لوكهيد مارتن" لصناعة الأسلحة على سبيل المثال). والشعبوية الحزبية داخل المؤسستين الجمهورية والديموقراطية معا هي تمظهر واضح لتكتل قبلي هوياتي. إنها أمريكا القبيلة، أمريكا الحقيقة. وسوف يضيف ابن خلدون أنه من جهة فاقتحام الكونغرس الأمريكي ومتانة المؤسسات من جهة أخرى لدليل على التمرين المدني للقبيلة. باختصار تستطيع الآن أمريكا أن تعتبر نفسها أول قبيلة نجحت في تغليب المدنية بداخلها. وهو الأمر الذي سوف يزكيه أستاذنا عابد الجابري رحمه الله.

أمريكا الحقيقة

العبارة المقتبسة أعلاه لابن خلدون، نقلها عنه أدباء ومفكرون وصاغوها دون الإعتراف بذلك، حيث تُنسب في بعض الأحيان إلى "ادريان دورانت" وتارة أخرى يتم تقزيمها في عبارة "صاحب المقولة غير معلوم" كما حدث في بداية الشريط السينمائي ل"لميل كيبسون" "أبوكاليبتو" عن حضارة المايا. وبما أننا بصدد تصحيح الرؤى وفي بعض الأحيان إزالة الغشاوة على "نخبة" الجامعيين و"الحقوقيين" من أبناء وبنات الجنوب للتمحيص والتدقيق في المفاهيم التي أحدثت لنا تارة "دوخة" معرفية و تيهاناهوياتيا تارة أخرى، فسوف نتعاطى مع ظاهرة القبيلة الأمريكية بالمستوى النقدي الذي تستحقه أي معاجتهامن داخل وعاء عمرانها البشري.



فلم تظهر أعراض الكيان القبلي الشعبوي مع مجيءالرئيس ترامب، ولم تأتي من فراغ بل كانت تعبيرا مُضمرا لسنين مضت منذ دباجة الدستور من قبل الأباء المؤسسين نهاية القرن الثامن عشر، مرورا بسياسة "فرانكلين روزفلت" المناوئة للشركات الكبرى للتعامل مع أزمة الكساد العظيم منذ ثلاثينيات القرن الماضي التي اعتبرت إدانا بصعود شعبوية اليسار التي أفضت بدورها إلى ميلاد أضخم النقابات والإتحادات العمالية الكبرى.ثم شُنت حرب ضروس ضد صناعة السينما من قبل السيناتور المحافظ أنذاك "جوزيف ماكارثي" الذي تزعمحملة تطهير داخل "هوليوود" مستهدفا كتابا ومخرجين و كل المشكوك في انتماءاتهم الشيوعية.وتلت هذه الحقبة تأجيج وانبعاث "حزب الشاي" الشعبويالهوياتي من قبل حاكمة الألاسكا "سارة بالين" التي كانت مرشحة نائبة للمرشح "جون ماكين" ضد الرئيس أوباما. وغير بعيد عن هكذا تحليل وفي تصريح لأستاذ الفلسفة الأمريكي "ريتشارد رورتي" قبل خمسة عشرة سنة، عبر عن تخوفه أمام الصعود الملفت ل"الأنجليكانية الدينية" داخل المجتمع الأمريكي.

أمريكا القبيلة

قد أوجه الشكر والإمتنان للرئيس "ترامب" من جهة وإلى اليسار الديموقراطي لأنهمامكناننامن الفهم الأعمق بعد فترات التخمين والتردد في مستويات التحليل خشية الوقوع في خندق المبالغات. لقد أجازها وأوجزها الرئيس: "هذه هي أمريكا الحقيقة". وغير ذلك من شعارات "الديموقراطية والحقوق ونمط الحياة، وبيت الحرية، والمنظمات الأهلية" ماهي إلا مساحيق تُجمل بها القبيلة الأمريكية أركان بيتها. ولقد نجحت بالفعل في جعل تاجر ب"موقاديشيو" أو حارس دراجات نارية بحارات "مانيلا"الضيقة، أو بائع سم الأفاعي بأحياء الصفيح ب"فري تاون" يعتبرون "جون وين" القدوة الأمريكية ومن يقف ضده فهو يقف في وجه الرجل الأول، الرجل المتحضر.

العقل الغنائمي الأمريكي

بدوره سوف يساعدنا أستاذنا الراحل محمد عابد الجابري بأدواته النقدية لفهم العقل العربي وثلاثية تأطيره بين القبيلة، العقيدة والغنيمة، فلا نجد حرجا في اقتراض معجمه البحثي واستعماله في فهم أمريكا القبيلة، بين الغنيمة السياسية والعقيدة "الإنجليكانية". لقد تسبب العقل الغنائمي السياسي الأمريكي والترف والعيش الرغد والرعونة والغنائم السياسية والإقتصادية داخل الحزبين في الكثير من جراح العصبية واللحمة الجامعة لأمريكا ورؤيتها للعالم. تقف هذه القبيلة الكبيرة أمام مفترق طرق حاسم: إما إعادة بناء لبنات الحزبين والتأسيس لعقد اجتماعي تصالحي منصف وإما ترك الأمور على حالها والنتيجة يعلمها ابن خلدون بحيث أن الورم الذي تسلل في عقر المجتمع الأمريكي اليوم زعزع الرأسمال الاجتماعي الذي من المفروض فيه أن يكون مبنيا على عنصري الثقة والتلقائية وهدد العصبية الجامعة الأمريكية.إلا أن صلابة المؤسسات ساعد في كبح الطبيعة الشرسة للقبيلة.

بإمكاننا تعميم مفهوم القبيلة الجديد وربطه بالشعبوية بأوروبا وصعود الشوفينيات الحزبية اليمينية وكيف ينطبق هكذا تشخيص على شخصيات قادة أوروبيين وأمريكيين في الشمال والجنوب وفي أسيا ينهلون من قبائل "الفايكينغ" و"الشيراكاوا" والمحصلة شيوخ قبائل ببدل آخر الصرعات.

عبد القادر فلالي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوتاوا، رئيس مجموعة تفكير PoliSens



تاريخ النشر : الجمعة 8 يناير 2021 م