عبد القادر فلالي: حينما يُورّطُك الغرب بالتصنيفات ويُتْخِمُك الشرق بالشعبوية.. حالة تونس


عبد القادر فلالي: حينما يُورّطُك الغرب بالتصنيفات ويُتْخِمُك الشرق بالشعبوية.. حالة تونس

عبد القادر فلالي

إن كان هناك من توصيف جامع ومانع لحالة الأكاديميات الغربية في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية والقانونية فأقل ما يقال عنها أنها في أزمة بسبب الغزو الإديولوجي الذي يعتلي مدرجاتها ويتغلغل بعد ذلك في الدوائر الحكومية. فماذا ننتظر من خريج في الدراسات العليا حينما يشتغل محللا سياسيا في إحدى الشعب الخاصة بالوزارات وهو الذي كان ينهل بالأمس من مقاعد الإديولوجيا، التي أصبحت مهووسة بالنوع الاجتماعي، والحريات.

هكذا وضع ساهم في وضع اللبنات الأولى لتغيير الفضاء العمومي العربي منذ التسعينيات حيث أوكلت المهمة لمحطات إعلامية تدعي التميز والتفرد في تأثيث هذا الفضاء الذي اعتمد لغة واحدة يتحدث بها مراقب سيارات الأجرة في العاصمة عمان، كما يتحدث بها ملمع أحذية في القاهرة أو جامعي من مراكش.

زار الرئيس السابق للمجلس الوطني التأسيسي، مصطفى بن جعفر، جامعة أوتاوا في أبريل 2014. وأشار بن جعفر في خطابه إلى أن تونس تمكنت من تجاوز الصعوبات التي كادت تقوض عمليتها الانتقالية، وذلك بفضل يقظة الشعب، المجتمع والتسويات السياسية، مع إبراز التجربة الدستورية التونسية.

طرح الباحثون والأساتذة أسئلة كانت تُورط تونس في ثوب لم يصممه التونسيون. قلة من الحاضرين اعتقدوا أن بن جعفر رجل فرنسي ولد بالصدفة في تونس. تركزت حججه خلال محادثات 45 دقيقة حول المؤشرات الغربية ومفهوم الدولة الفيبرية (في إشارة إلى تعريف ماكس فيبر للدولة).

يتماهى نفر من الشرق والمحسوبين على الإعلام والحريات، والمؤامرات، والحكوات، والأساطير والتوابل والفكر في خندق يكتفون فيه بالنقد التقليدي العقيم الذي يُقحم نفسه في الأصول والإطارات الجاهزة والقوالب المُعدة أصلا لإقحام أي ظاهرة ضمن نسق واحد أوحد. هذا النوع من التحليل يرى أن الظواهر كيفما كانت فهي سهلة الغوص لأنها تخضع لعميلة إرغام، بل اغتصاب للظواهر لكي تتلاءم مع "الإطارالمعرفي" المعد أصلا والجاهز بتوابيله.

فمهمة المهمومين بالمعرفة منوط بهم اليوم القيام بأكبر عملية تطهير وإفراغ للمفاهيم من بعدها الإديولوجي والتحيزات التي تسكنها. لتبسيط السؤال سوف نلج المناطق المعرفية باعتبار أن العقل البشري بنية تطورية إلا أننا سوف نجده أي هذا العقل لا يفكر إلا من خلال إطار جاهز سواء كان تقليديا أو حداثيا وحتى إن تم الإدعاء بتبني أفكار الإنفتاح واليسار والخطاب الديني إلا أن متلازمة وجود إطار جاهز يلف صاحبه بكل قوة لترويض الظواهر وإرغامها حتى تنصاع وبكل قوة وعنف لكي يستجيب هذا الواقع البئيس لطلب ذلك الإعلامي، أو "المفكر" أو "الخبير".

تصفيقات المؤشرات

الأوساط الأكاديمية الغربية والمنظمات الدولية بمؤشراتها ونشطائها ونقادها وجميع المابعديات (في إشارة إلى كل من : ما بعد الحداثة والبنيوية والكولولنيالية والبنائية ...) مدحت وقدمت بتفصيل كبير المناخ السياسي في تونس مرة أخرى، أثناء وبعد "الثورة". إظهار كيف تختلف السياسة في تونس اختلافًا كبيرًا عن أي بلد عربي آخر وأن سياسات الحكومات المتتالية جعلت تونس الجنة بالنسبة للدول العربية الأخرى.

تقديم تحليل للسياسة والمجتمع التونسي سمح للبلاد بالتحول السلمي إلى الديمقراطية ومع ذلك، ليس هذا ما يشعر به التونسي العادي أو يختبره. فإن هذا التفاؤل في غير محله. عندما يلقي القارئ والمراقب نظرة معمقة، يمكن للمرء أن يرى أن هذا التفاؤل بجنة تونسية متناقض عندما يتعلق الأمر بالسياسة على المستوى الكلي وحياة التونسيين العاديين.

قدمت الدوائر الغربية من الجامعات والبرلمانات حجة أن هذه الخصائص أصلية وخاصة بتونس، مما يجعلها حالة فريدة من نوعها كون البلاد حققت أداءً جيدًا مقارنة بالدول العربية الأخرى التي شهدت الربيع العربي من خلال تعزيز المؤشرات. قاموا بإدراج عدة عوامل شملت المجتمع المدني الأهم الذي كان قادرًا على ترسيخ الديمقراطية بعد الثورة. كان لدى تونس أيضًا جيشًا صغيرًا فقط كان منفصلاً عن الرئيس وهو ما كان مختلفًا عن حالة مصر.

كما أشاروا إلى أن تونس لديها مجتمع متحرر للغاية حيث تمتد الحقوق إلى الكثيرين، وهذا لم يكن ولا يزال غير موجود في أجزاء أخرى كثيرة من العالم العربي. تشمل هذه الحقوق الحق في الإجهاض، الذي تم إقراره في عام 1973، وكذلك حرية الضمير. كما نرى هنا، الغرب على حق، إذا نظرنا إلى تونس بهذه الطريقة بحقوقها النسائية الغربية، فإن تونس حالة خاصة في العالم العربي ويمكن اعتبارها جنة.

الفخ الناعم

حينما تصاب هذه الدوائر بخيبة الآمال في الأطروحات فإن الأكاديميات الغربية وصحفييها ونشطائها يهرعون نحو المقاربة الثقافية لدرء وصمة العار التي لاحقتهم في التصنيفات مدعين أن السبب ثقافي بالأساس.

ومع ذلك، فإنهم يناقضون أنفسهم. نظرة للتفاؤل هذه عن تونس كونها الدولة الخاصة، أو الجنة تتلاشى بسرعة عندما يصادف المراقب والقارئ كيف يعيش التونسيون العاديون حياتهم. إن هذه الإصلاحات الفكرية والليبرالية التي يروج لها الأكاديميون الغربيون لتونس جعلت حياة المواطن التونسي العادي صعبة للغاية مما جعل الناس يثورون على الحكومة اليوم في هذه اللحظة بالذات من هذا المقال.

هذه الإصلاحات والتطورات التي حققتها تونس، والغرب يوضحها بتفصيل كبير تبدو رائعة من الناحية النظرية، على كل بلد أن يتصرف بطريقة مماثلة. ومع ذلك، فإن هذه الإصلاحات لم تنجح في الممارسة، على الأقل ليس بالنسبة للمواطن التونسي العادي.

على الرغم من أن هذه الإصلاحات والممارسات تبدو رائعة، هذا هو المكان الذي نبدأ فيه في رؤية التناقضات بين ما يحدث على المستوى الحكومي وما يحدث في الواقع. واقع الحال هو أنه بينما أصبح الوصول إلى الحرية وحقوق المرأة (الميراث والإجهاض) أسهل، فقد جعل العثور على وظائف أكثر صعوبة. على السطح عندما يتابع القارئ أي عمل من الجامعات الغربية سواء كتب وتحليلات من قبل غربيين أو عرب يعيشون في الغرب، فإنه سيدرك أن تونس هي في الواقع حالة خاصة.

عندما يتعمق القارئ في كتاباتهم وتحليلاتهم، يجد أن الأمر ليس كذلك. جعل التعليم الشامل من الصعب على الناس العثور على وظائف. عندها يصاب الناس العاديون بالإحباط من هذا النظام، لقد سئموا من الضائقة المالية التي يواجهونها بشكل يومي. إذا ركزنا فقط على ما يحدث على السطح وأخذنا حجة الغرب، فسنرى أن الوضع في تونس متفائل للغاية، ويمكن بصدق الإشارة إليه على أنه حالة خاصة. لكي يكون المرء ناقدًا، يجب أن يحفر تحت السطح وبين ثنايا هذا السطح، يدرك القارئ أن هذا التفاؤل لا ينتقل إلى المواطن التونسي العادي، وهو بالتأكيد ليس كذلك.

العيش اليومي

مرة أخرى، في حين أن الأكاديميين في الجامعات الغربية والصحفيين وما يسمى النشطاء يتحدثون عن مدى تقدم تونس وتحررها في مجال الحرية والليبرالية في معظم فصولهم، يكتشف القارئ في النهاية أنه حتى بعد الثورة وفي هذا الحدث الخاص فإن حالة الديمقراطية في العالم العربي لا تمثلها تونس. ما نراه يتعارض مع موقفهم المتفائل هو أن الفساد لا يزال يهيمن على المجتمع التونسي.

كما هو مذكور في الفقرة أعلاه، يواجه خريجو الجامعات صعوبة في العثور على وظيفة لأن السوق مشبع للغاية. يحصل الأشخاص المرتبطون بالحكومة على وظائف، وأحيانًا يحصلون على حد أدنى من التعليم. كل هذا في الوقت الذي يتم فيه التغاضي عن التونسيين العاديين الأكثر تعليماً والأكثر ملاءمة للوظيفة، بسبب حقيقة أن هذا الشخص لديه وساطات في السلطة. هذا لا يبدو مفرطا في التفاؤل.

لا يبدو أن التفاؤل بشأن كيف أن نظام التعليم متحررًا ومتقدمًا قد ترجم إلى الحياة الواقعية للتونسيين. كيف يمكن اعتبار تونس حالة شاذة كما يطلق الغرب على البلاد عندما لا تنعكس الفجوة بين ما يحدث على المستوى الحكومي على الحياة الفعلية للمواطنين العاديين. هذا التفاؤل لا يسافر بعيدًا ويبدو أن الأكاديميين الغربيين يتجاهلون هذه الحقيقة من خلال الترويج لمدى تفاؤل الموقف.

من الواضح تمامًا هنا أن الناس لم تكن لديهم حرية الضمير. وبدلاً من ذلك تعرضوا للهجوم من قبل جهات للتعبير عن رأيهم، وفي هذه الحالة، إحباطهم تجاه الحكومة. مرة أخرى، لا نرى تونس على أنها حالة شاذة ولكن في ضوء نسبي مثل الدول المجاورة الأخرى دخلت سياق الانقلابات من طبية في عهد بنعلي وبورقيبة إلى انقلاب فقهي اعتمد نعومة الفصول.

عبد القادر فلالي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوتاوا، رئيس مجموعة تفكير PoliSens

تاريخ النشر : الاثنين 2 أغسطس 2021 م