الثابت، المتحول والزئبقي في العلاقات الدولية من ابن العلقمي إلى صالح ثم بشار


الثابت، المتحول والزئبقي في العلاقات الدولية من ابن العلقمي إلى صالح ثم بشار

لسنا بصدد الخوض في الثابت والمتحول ثقافيا في مقترحات علي أحمد سعيد “أدونيس” ولن نفتح باب صدمة الحداثة والاشكالية الحضارية ،المصيرية التي يؤكدها. بل نتفق مع الفكرة التي تفرض علينا أن نواجه أنفسنا ونعرف ما كنا ومن نحن وإلى أين نحن متجهون؟ نُخضع مصطلحات الثابت ، المتحول والزئبقي كسلوكيات للدول من أجل فهم للعلاقات الدولية.

الثابت في العلاقلات الدولية هي تلك السلوكيات التي لا تتغير من حيث المضمون و ندرج هنا سلوك إيران منطلقين من شخصية ابن العلقمي في الفترة العباسية مرورا بصالح ثم بشار.

ثم يأتي السلوك المتحول أي حينما تغيرالدول اتجاهاتها التي هي رهينة بمتغيرات موازين القوى الدولية التي تتغير بسبب تغير الفاعلين في صناعة السياسات ونستحضر حالة ليبيا إبان معمر القذافي حين غيرت ليبيا مسارها وامتثلت لضغوطات الولايات المتحدة الأمريكية حيث تحولت من حلف وارسو إلى حلف الشمال الأطلسي.

وأخيرا السلوك الزئبقي حيث تعرف السايسة الخارجية لبلد ما ارتجالية وارتباكا يصعب فهم الحالة الزئبقية لصناع السياسة الخارجية بها ونستحضر مثل تركيا من خلال عقيدة داود أغلو (صفر عدو) وسياسة أردغان (عراك الحارة وزائد أعداء). نطرح سؤالا تمهيديا: لماذا يهتم دارسوا السياسة الخارجية والشؤون الدولية بالتاريخ؟

محصلات التفاعل الدولي

يمكن تقبل حالات كثيرة يتم فيها سوء فهم كبير للعلاقات الدولية ولتحليلها. غير أن هناك مُسلّمَة لا يمكن تجاهلها حيث تمارس السياسة الخارجية تبعا لمدلرس عتيقة رأت فيها العلاقات الدولية النور كتخصص عاش في رحم الحربين العالميتين. فكانت الجدلية التي خلقت ميلاد المدرسة اللبرالية ثم الواقعية ثم الواقعية واللبرالية الجديدتين، ناهيك عن المدارس النقدية من قبيل البنائية و الماركسية و ما بعد الكولونيالية والبنيوية. حيث تتربع الواقعية الجديدة على هيمنة المدارس ويشتغل بها أصحاب المكاتب المقابلين لمبنى البيت الأبيض. يرى هذا التوجه أن الفوضى العالمية تقتضي الإعتماد على الذات والتنافس على الهيمنة.

فمثلا الثابت في السياسة الأمريكية هو حركية الإقتصاد (أنظر مقال يوسف مكي) بين التضخم والكساد تعقبه برامج إنعاش يتبناه الرؤساء الديوقراطيون فتصل المرحلة حدا خانقا من التضخم يتجاوز القدرة الشرائية فيصبح غير مقبول وغير محتمل من طرف شرائح عريضة في المجتمع الأمريكي وهذا يخلق بيئة مناسبة لوصول الجمهوريين الذين يعمدون لخفض الضرائب وتقليص للأجهزة البيروقراطية وترشيد الخدمات الصحية والتعليمية والسكنية على حساب ذوي الدخل المحدود والذريعة تكون دائما تنشيط رأسمال السوق تماشيا مع مبدأ “أدم سميث” وهذا بدوره يتسبب في حالة ركود خانقة تمهد بدورها الطريق لوصول مرشح ديموقراطي إلى البيت الأبيض هكذا وبشكل مختصر دورة الحياة السياسية التمثيلية بالولايات المتحدة الأمريكية. هذا الثابت له علاقة بالظرفية الإقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية.

أما المتحول فهو مرتبط بالسايسة الخارجية الأمريكية كونها ليست الفاعل الوحيد في الفضاء الدولي من ثنائية قطبية (السوفيات والأمريكان)، و قطبية أحادية (الأمريكيون) ثم تعددية قطبية (دول البريكس زائد دول المحور التقليدية).

قراءة في النظرية الرابعة لإيران

انطلقنا من حالة ابن العلقمي التي يمكن شرحها على النحو التالي ، كونه كان وزير الخليفة العباسي المستعصم حيث نصب مكيدة ضد الخليفة بتآمر مع هولاكو التتار بغية الظفر بولاية بغداد وتحويلها من المذهب السني. فاجتاح التتار الدولة العباسية وتم هزم جيش الخليفة وقتل ابن العلقمي من قبل التتار(أنظر البداية والنهاية لابن كثير ص: 201:-204). في هذه الحقبة من التاريخ لم يكن لا خمينيا ولا شاها. بل كانت عقيدة فارسية بامتياز.

يتكرر نفس السلوك الثابت مع علي عبدالله صالح الذي تآمر مع عناصر إيران باليمن معتقدا أنه سوف يحضى بحصة من الغنيمة. فعاهدوه شيوخ القبائل وميليشا إيران باليمن (على صيغة حزب الله) للإنتقال إلى مسقط رأسه “سنحان” حيث أعطي له “الأمان” ومن “يخون العهد يرتكب عيبا أسودا” إلا أنه قتل وتم التنكيل بجثته.

فابن العلقمي وخيانته أهل السنة في القرن الثالث عشر وعلي عبدالله صالح في القرن الواحد والعشرين ونكوصه لأهله باليمن ونكرانه لجميل ومعروف الرياض لا يختلف فيها إثنان أن الإشكالية ليست مذهبية كما يروج لها بل عقيدة فارسية توسعية. والقادم القريب من تأملنا لهذا التاريخ سوف يلقى بشار نفس مصير ابن العلقمي و صالح في حالة ما حاول المصالحة مع ذاته. إنه سلوك ثابت عبر القرون يسعى لاستعادة تاريخ فارسي.

جرى الإعتقاد أن الدول مثلها مثل البشر تمتلك رغبة فطرية في السيطرة والعنف ثم تحول هذا التنظير الواقعي (هانس مورغينتو) نحو واقعية جديدة (كينيث وولتز) أغفلت الطبيعة البشرية وركزت بالأساس على تأثير النظام الدولي في سعي كل الدول للحفاظ على وجودها في عالم فوضوي تنعدم فيه سلطة مركزية حيث يفسح المجال امام الإهتمام فقط بالمصالح الخاصة للدول.

مقال جدير بالإهتمام كتبه ظافر محمد العجمي تحت عنوان “نظرية إيران الرابعة “البدر”. يناقش الكاتب أن طهران منذ الخميني مرت عبر نظريات عدة بدأت منذ 1979 ” القومية الإسلامية” لمهدي بارزكان لتأسيس حكمة موالية للسوق فسقطت حكومته ثم تصدى الخميني نفسه لوضع النظرية الثانية وهي “تصدير الثورة ” لإقامة الحكومة الإسلامية العالمية حيث اصطدمت بالحرب العراقية الإيرانية التي أنهكت المشروع.

فتأتي النظرية الثالثة ” أم القرى” لمحمد جواد لاريجاني لصهر الشعوب الإسلامية في مشروع “أم القرى إيران” وحكومة الولي الفقيه خارج الولاء الوطني. تعتبر هذه النظرية الثالثة أكثرهم نجاحا حيث اتسمت بتطبيق جوانب عديدة منها.

ما يجعل المقال بالغ الأهمية هو كون التفكير الجديد ينصب حول تعبيد الطريق من طهران مرورا عبر العراق، سوريا، لبنان، البحرين، اليمن ، ثم على امتداد شمال إفريقيا حيث تعمل الجزائر على الدفاع عن مصالح ريران داخل الجامعة العربية. في كتابه “الإرث” يلخص “ديفيد سنغر” الدورالذي كانت تلعبه الجزائر في تنسيق اللقاء بين إيران والولايات المتحدة حيث كان يزور “روبرت غيتس” حين كان موظفا ساميا في وزارة الدفاع الجزائر لإجراء الترتيبات للقاء فرقاء إيرانيين.

بهذا تكون إيران ولجت نظريتها الرابعة حسب محمد ظافر. إنها نظرية “الهلال الشيعي” التي تخفي المشروع الفارسي فالعقيدة الفارسية أقوى من النزعات القومية التي مرت عبر التاريخ وهذا ما يجعل من هكذا سلوك ثابتا عكس المتحول.

فتم خلق دول الظل أي دولة إيران داخل دول أخرى (لبنان، العررق، سوريا، البحرين و اليمن) فقد عاهدت إيران من محو إسرائيل من الخريطة كما توعد وزير دفاع ماليزيا نصرة القدس بجيش جرار من “كوالالامبور إلى القدس” في الوقت الذي ينتهك فيه الأهوازيون العرب والسنة في إيران وتطرد فيه ماليزيا مسلمي الروهينغا عند الحدود.

السلوك المتحول هو حينما نجد موازين القوى تتغر بتحول قوي الأمس في المعادلة الدولية إلى ضعيف أنهكته الحرب الباردة وحرب أفغانستان فسرعان ما تستجدي دول ود عدو البارحة الذي خلت له ساحة القطبية. فهرعت ليبيا ورضخت لضغوطات الغرب ومكنهم من مراقبة مشروعه التسلحي. فهذا يسمى تحولا في السايسة الخارجية نتيجة موازين القوى المؤثرة.

فيأتي أخيرا نموذج السلوك الزئبقي، لنأخذ على سبيل المثال حالة تركياحيث يُحسب لداود أغلو صاحب سياسة “صفر عدو لتركيا” عن نضج في التعاطي مع المجتمع الدولي. إلا أن الخلاف أصبح جليا حينما توثرت علاقته مه صديقه أردوغان بسبب تلك الرصانة التي حضي بها.

فوُضع الرجل في الرف ونهل أردوغان سياسة “عراك الحارة وزائد عدو” حيث أصبحت إسرائيل حميمة ثم انقلبت عدواة الروس إلي صداقة. هذا التخبط الزئبقي هو الذي مهد لثورة يوليوز 2017. حيث تم الترويج لها على انها انقلابا. ناهيك عن الرغبة الجامحة في طلب عضوية الإتحاد الأوروبي ثم إظهار عكسها.

فبعد قطيعة دامت ست سنوات عقب حادث سفينة مرمرة عادت العلاقات في كافة المجالات وتبادل السفراء بين أنقرة وتل أبيب، حيث تم تعيين ارية نائية سفيرة إسرائيل لدى أنقرة كمال أوكام سفيرا لتركيا لدى تل أبيب. ففي قضية كردستان تحالف أردوغان مع كل أعدائه ضد الأكراد (حلف مع إيران، روسيا، العراق وحتى سوريا). العديد من الأمثلة يمكن أن تساق على الحالة التركية على سبيل المثال الجزائر وزئبقية سلوكها مع المنتظم الدولي تارة الجنرالات مع موسكو وأبناؤهم العقداء يتطلعون للعمل مع واشنطن.

التغني بالدفاع عن الشعوب في وقت تُكبت الهوية القبائلية في تيزي وزو ويُفسح المجال في تندوف لفصيل يطالب المغرب في جزء من ترابه. ثم أنفة تسب وتشتم فرنسا وحين تهريب المال والإستشفاء تصبح نفس البلد ملاذا و ملجأ. ويتم إبعاد اللاجئين السوريين خارج الحدود مع المغرب.

حقل العلاقات الدولية بالمغرب

إن حاولنا أن نجيب على سؤال أي مدرسة يمكننا أن نقارب فيها السياسة الخارجية المغربية؟ فالجواب لا محالة يجيزها في اعتماد المغرب رؤية متعددة الجوانب.

المغرب يملك قمرين صناعيين للمراقبة والتمكين المعلوماتي ولديه طائرات+Block 52 F16 ، يقطع علاقاته مع إيران بسبب تصريحات حول البحرين، في نفس الوقت يشتغل على تطوير رؤية جنوب جنوب مع إفريقيا ويؤهل العلماء الأفارقة بالمغرب في إطار دبلوماسية روحية. ولديحه جناح قائم بمدينة المعارض بالصين ورواق ثابت في منتزه “والت ديزني” بالولايات المتحدة الأمريكية.

في عز أزمة دبلوماسية مع إسبانيا يفتح الشواطئ المغربية للبحارة الإسبان الذين تضرروا من تلوث بيئي في البحر (مدة ثلاثة أشهر مجانية ). يفتتح دورا للمغاربة بالخارج في المناطق الأكثر تأثيرا (نموذج لتجربة المجلس الثقافي البريطاني).

أمثلة عدة عن المزج بين القوة الصلبة والناعمة معا (الواقعية الجديدة) ثم في نفس الوقت توفير جو التعاون مع الفرقاء الأفارقة في إطار نقل تصور المبادرة الإفريقية للتنمية البشرية وتواجد الجيش المغربي ضمن قوات حفظ السلام بدول إفريقية (اللبرالية الجديدة).

تأتي كذلك رؤية جنوب جنوب ضمن تصور دول الهامش لواقعها مع دول المركز التي نمت بفعل تفقير دول الجنوب ( ما بعد الكولونيالية). هناك إمتداد مغربي لعقلية ضاربة في التاريخ تنهل من زعماء بدءا من عبدالحميد الأوربي، إدريس الأول، يوسف بن تاشفين، محمد الشيخ السعدي، المولى سليمان ، محمد السادس. قبل كل هذا وذاك هناك خاصية العقلانية المنطقية التي تكسب المغرب ثقلا دبلوماسيا.

عبدالقادر فلالي – جامعة أوتاوا-كندا

 

المصدر برلمان.كوم