الجريمة و العقاب و الضمير الغائب


الجريمة و العقاب و الضمير الغائب

المصدر : عبد الكريم السالمي

مساء السبت الماضي وجدت نفسي جالسا في أحد المقاهي القريبة من مقر إقامتي ؛ هناك في ذلك المكان حيث يطيب لي الجلوس وحيدا كلما سمحت لي بذلك الأحوال و الظروف ، في مساء ذلك اليوم كنت جالسا في الخارج تحت ظلال شجيرة قريبة من الرصيف المقابل لواجهة المقهى المتواجدة على الطرف الآخر من الطريق ؛ كان جليسي الوحيد في ذلك الوقت هو هاتفي المحمول الذي نادرا ما يشعرني بالملل و كنت حينها على موعد مرتقب مع أحد الأصدقاء ؛ كان موعد اللقاء لا يزال بعيداً فآنتهزت تلك الفرصة المناسبة للغوص مجددا في أعماق رواية " الجريمة و العقاب " لدوستوفسكي المنسوخة على هاتفي المحمول .

دقائق معدودة كانت كافية لتقودني الصفحات الأولى من تلك الرواية بعيدا كما تفعل بي دائما كلما أعدت قراءتها من جديد ، رحلت بفكري بعيدا عن ظلال تلك الشجيرة و عن كل ما كان يحيط بي في ذلك المكان ، مر وقت طويل و أنا على ذلك الحال إلى أن وقف أمامي فجأة شاب غريب فأرغمني بوقوفه على العودة سريعاً إلى حضيرة الواقع ، كان شابا مقبول الشكل و المظهر ؛ ملامح وجهه توحي بأنه في سن يقارب الأربعين ، قرأ علي السلام ثم طلب مني بأدب و من دون مقدمات أن أعطيه ثلاثين درهما ؛ أخبرني بأنه يريد ركوب سيارة أجرة للعودة إلى منزله المتواجد في حي ذكره لي بالإسم ، بدا لي ذلك الحي بعيدا جدا و بدت لي معه الثلاثون درهما مبلغا معقولا غير مبالغ فيه .

كثيرا ما يقع الإنسان في مثل ذلك الموقف و كثيرا ما يعجز عن آتخاذ القرار الأنسب فيبدأ في مساءلة نفسه ؛ هل يقدم يد المساعدة أم يقدم عبارات الإعتذار و " كفى الله المؤمنين شر القتال" .

ساورتني في البداية بعض الشكوك حول صدق ذلك الشاب لكن صوتا ما في داخلي كان يقول لي : ماذا لو كان صادقا ؟ ماذا لو كان مريضا أو تعبانا غير قادر على المشي كل تلك المسافة الطويلة جدا .

وقفت برهة من الزمن تائها بين الفرضيات و الإحتمالات و الشكوك إلى أن قادتني بعض دروس و تجارب الماضي إلى آتخاذ القرار الأنسب فقلت له لا عليك يا أخي سأوقف لك سيارة أجرة و سأسدد ثمنها نيابة عنك بكل فرح ثم نهضت من مكاني و توجهنا معا نحو الرصيف الذي لم يكن يبعد عنا سوى بضع خطوات ، و قفنا على جانب الطريق و دعوات الخير و الهدى و الصلاح و الحج المبرور تتساقط علي كالمطر الهاطل بغزارة من السماء إلى أن لمحت عيناي سيارة أجرة تسير على الطرف الآخر من الطريق فأشرت بيدي إلى سائقها بالوقوف ثم عبرت الطريق مهرولا نحوها بعد أن طلبت من ذلك الشاب مرافقتي .

ألقيت التحية على سائق سيارة الأجرة ثم سألته عن حدود المبلغ الذي يتطلبه الوصول إلى الحي الذي يسكنه ذلك الشاب ، بدا سؤالي غريبا نوعا ما أو غير مألوف ؛ فهمت ذلك بوضوح من ملامح و نظرات السائق فكان علي أن أسرع في توضيح الأمر حتى لا يشتد غرابة ؛ أشرت بيدي إلى الخلف و أنا أقول له بأنني أريد أن أسدد المبلغ الذي يتطلبه وصول هذا الشاب الذي يقف وراءي إلى منزله .

آزدادت نظرات السائق نحوي غرابة فقال لي بصوت تعلوه بعض الحدة و الخشونة : أين هو هذا الشاب الذي يقف خلفك ، أنا لا أرى أحدا ؟ .

نظرت إلى الوراء فلم أجد سوى السراب... لا أدري كيف و متى آختفى ذلك الشاب عن الوجود... في الوقت الذي كنت أتفحص فيه وجوه كل الأشخاص الماريين من حولي كان ذلك الشاب قد خرج تماما عن المشهد و آبتعد بما يكفي عن مسرح جريمته ؛ تابعت خطواته من بعيد لقد كان يمشي على الرصيف بهدوء و دم بارد و كأن شيئاً لم يقع .

قدمت آعتذاري بخجل لسائق سيارة الأجرة ثم عبرت الطريق مرة أخرى و عدت للجلوس في مكاني من جديد تحت ظلال تلك الشجيرة الصغيرة ، أشعلت سيجارة و رحت أفكر في الوقاحة و الدناءة و قلة المروءة و كل الصفات و الخصال الذميمة التي تشكل منها ذلك الحادث الغريب ، ذلك الحادث الذي أنعش ذاكرتي و أعادني سنوات طويلة إلى الوراء... لقد ذكرني بحادثة شبيهة تماما بتلك التي وقعت لي مساء ذلك اليوم ؛ حادثة عشتها في مطلع تسعينيات القرن الماضي و لا زلت أذكرها بكل تفاصيلها رغم مرور حوالي ثلاثين سنة على وقوعها ...

تذكرت ذلك اليوم الذي كنت أقف فيه بالقرب من ثانوية السلام منتظرا الحافلة الأولى التي ستقلني إلى الجامعة... كنت واقفا في تلك المحطة مع بضعة أشخاص من بينهم إمرأة لا زلت أذكرها و إن كنت قد نسيت كل ملامح وجهها... لما وصلت الحافلة توجهنا جميعا نحو الباب الخلفي فإذا بتلك المرأة تقول لي : يا ولدي إني أود الذهاب إلى وسط المدينة لكنني لا أملك نقودا فقلت لها بعفوية لا عليك إصعدي سأسدد عنك ثمن تذكرتك ، لم يكن الأمر مكلفا بحيث أن ثمن تذكرة الحافلة في ذلك الوقت لم يكن يتجاوز درهمين .

لا زلت أذكر إلى الآن نزول تلك المرأة من الحافلة عند أول محطة بالقرب من واد الناشف ، فهمت حينها أن غايتها كانت هي النقود أما التذكرة فكانت مجرد ورقة لا تعني لها شيئاً... تابعت نزولها من خلف زجاج نافذة الحافلة بكل أسف ، شعرت بقليل من الإحباط لكنني تعلمت درسا أفادني كثيرا في حياتي اليومية ، درس ذكرني به ذلك الشاب الذي كان ينوي الحصول على ثلاثين درهما بالباطل .

و أنا جالس تحت ظلال تلك الشجيرة حاولت إقناع نفسي بضرورة بنسيان كل ما حصل ، فتحت هاتفي المحمول من جديد و رحت أتابع قراءة بعض الصفحات من رواية " الجريمة و العقاب " .... مرت لحظات قصيرة فقط أدركت خلالها بأنني فقدت ماهية التركيز بحيث لم أعد قادرا على متابعة القراءة... كنت شارذ الذهن ، مشتت التفكير ؛ تشابهت علي بعض الصور و آختلطت في ذهني بعض المفاهيم بأخرى ، ألقيت بهاتفي على الطاولة بعد أن تشابكت في مخيلتي خيوط جريمة الرواية بجرائم الواقع فرحت أسائل نفسي : هل فعل ذلك الشاب و تلك المرأة يرقى إلى درجة الجريمة ؟ هل يشعران بالذنب كما يشعر به بطل الرواية ؟ . أقنعت نفسي في النهاية بأن فعل ذلك الشاب و تلك المرأة لا يمكن أن يرقى إلى درجة الجريمة... لكن ماذا عن الثلاثين السنة التي مرت بين الحادثتين ؟

لقد تغير كل شيء طوال هذه المدة الطويلة ، كل شيء.... تغيرت المباني و الطرقات و وسائل المواصلات ، تغيرت كثير من الأحوال و الظروف ، تطورت طرق و أساليب التواصل و الإتصال و مسنا حظ وافر من الحداثة و التغيير في كل شيء حتى في المأكل و المشرب و اللباس ، حفتنا التكنولوجيا من كل جانب و أرغمتنا طوعا أو كرها على تقبلها و التكيف معها... الشيء الوحيد الذي لم يمسه التغيير طوال هذه السنوات الطويلة هو فكر الإنسان و تصرفاته و معاملاته مع نفسه و مع الآخرين ، ثلاثون سنة من تاريخ المجتمع غيرنا و طورنا فيها تقريبا كل شيء إلا الأخلاق و المعاملات و التصرفات ، لقد آختل ميزان التطور في حياتنا فتقدمنا في مجالات و ميادين على حساب أخرى... ألا يعتبر ذلك جريمة ؟

لماذا نشعر بحاجتنا لمتطلبات العيش الكريم و لوسائل الترف و الترفيه و لا نشعر بضياع الأخلاق و المبادئ و القيم ؟ ألا يعتبر هذا التقصير جريمة ؟

فساد العلاقات الإنسانية : الأسرية و الإجتماعية و ضياع الحقوق و الأمانات و شيوع كل الآفات و الأمراض الإجتماعية... ألا يعتبر كل هذا عقابا لنا على إهمالنا للجوانب الروحية و الفكرية و الثقافية من حياة الإنسان ؟.

كلنا مسؤولون ...

نحن الآن نسدد ضريبة ما آقترفناه من جرائم في حق أنفسنا و في حق التاريخ... في حق الأخلاق و المبادئ و القيم لكن للأسف القليل منا من يشعر بألم العقاب.

تاريخ النشر: 19-02-2021 م