ذكريات مهاجر سري الجزء الثالث


ذكريات مهاجر سري الجزء الثالث

المصدر : عبد الكريم السالمي

وصل يونس إلى الحديقة و هو يفكر في ليلته الأولى التي سيقضيها في العراء بعيدا عن الديار ، لم يسبق له أن وجد نفسه بلا مأوى حتى عندما كان يعيش في بلده حياة الفقر و الحرمان ، جلس على كرسي الإسمنت وحيدا في الظلام ، تناول القنينة التي سرقها من المقهى و التي سكب فيها شراب القهوة دون أن ينتبه إلى ما كان بداخلها من ماء ، رشف منها رشفة فبدا له طعم ذلك الخليط كمذاق الغدير ، تفقد الكيس البلاستيكي الذي أعطاه له بعض ركاب الحافلة التي قدم تحتها و لم يجد بداخله سوى بعض القطع القليلة من " الماضلين " ، أشعل سيجارة و راح يجول بناظره في جنبات الحديقة ، شعر بغصة خانقة تعلو حلقه من فرط الأسى و الإحباط ،

كل الأماني و الأحلام التي كان يعلقها على أوروبا تحولت أمام عينيه إلى كوابيس و أوهام .
خفت حركة السير في الشارع المحاذي للحديقة ، لم يكن يونس يملك في يده ساعة حتى يعرف كم مضى من وقت ، بدأ له الليل طويلا و موحشا ، تعب من الجلوس على كرسي الإسمنت فلجأ إلى شجرة وسط عشب الحديقة الأخضر ، أسند ظهره إلى جذعها و نزع حذاءه الذي ظل يلبسه لمدة يومين كاملين ، فاحت من جواربه رائحة كريهة إلى حد ﻻ يطاق فتذكر أخته الكبرى التي كانت ترغمه على غسل رجليه كل ليلة قبل الخلود للنوم ؛

فاضت عيناه من حرقة الذكرى و حرارة الشوق ، طال سكون الليل و يونس جالس هناك وحيدا وسط الظلام يسامر الحنين و الذكريات ﻻ مؤنس له سوى علبة سجائر جاء بها من وجدة و قنينة بها خليط ﻻ يشبه القهوة سوى في لون السواد .
مرت ساعات طوال شعر بعدها يونس برغبة أكيدة في النوم فإرتمى فوق العشب الأخضر و النوم يداعب عينيه الذابلتين ، بدأت درجة حرارة تلك الليلة من ليالي شهر دجنبر في الإنخفاظ حتى وصلت إلى حد ﻻ يطاق ، إنخفظت معها درجة حرارة جسم يونس فإضطر للنهوض من مكانه لتبدأ معاناته مع قساوة طقس بارد برودة الجليد ،

أخذ يمشي و يهرول و يحرك أطرافه وسط الحديقة كالمجنون حتى لا يتجمد الدم في عروقه ، بقي على ذلك الحال حتى أصابه الملل ثم عاد ليجلس في مكانه من جديد لكنه وجد العشب مبللا بقطرات الندى الباردة، تذكر فراش منزلهم فخاله وثيرا دافئا على بساطته فسب اليوم الذي ركب فيه تلك الحافلة ، لجأ إلى كرسي الإسمنت من جديد أشعل سيجارة و عيناه تغالب الدموع .
بلغ الصقيع ذروته مع إقتراب موعد طلوع الفجر و يونس ﻻ يزال يقاوم الموت من شدة البرد و الجوع و الخوف و كل ما ألم به من أهوال في أول ليلة له بعيدا عن الديار ، طال الليل و طالت معه المعاناة ،

فكر في ترك الحديقة عله يجد مكانا دافئا يحميه من قساوة البرد القاتل لكن الخوف من دوريات الشرطة منعه من الإقتراب حتى من الرصيف ، نظر مليا إلى عشب الحديقة الأخضر و إلى الأشجار المحيطة به وقال في نفسه : أهذه هي الجنة التي كنت أحلم بها من وراء البحار ؟ أشرقت شمس يوم جديد و عينا يونس لم يغمض لهما جفن فكان أن آنزوى إلى ركن بعيد عن العشب البارد و ألقى بجسمه المنهك فوق الأرض ، لقد بلغ منه التعب منتهاه من كثرة السهر و الوقوف و المشي في فناء الحديقة ، كان بحاجة شديدة إلى النوم و لو لبضع دقائق ، لملم أطراف جسمه و ضم ركبتيه بقوة إلى صدره ثم إنحنى برأسه إلى أقصى حد فإنكمش تماما كما تنكمش الكلاب في ليالي الشتاء الباردة ،

غفا بعدها غفوة طويلة لم يوقضه منها سوى حركة السير و ضجيج السيارات من حوله ، نهض من مكانه و هو ينظر لحاله البئيس ، تذكر جحيم الليلة الماضية فأقسم أﻻ يعود إلى الحديقة مرة أخرى ، غسل وجهه و بلل شعره الناعم بما كان في حوزته من ماء ثم ترك الحديقة و بينما هو يمشي في الشارع خطرت بباله فكرة الخروج إلى هوامش و أطراف المدينة عله يجد هناك كوخا يأوي إليه ، إستحسن الفكرة و هم بتطبيقها لكنه كان جائعا جدا إلى درجة لم يعد فيها قادرا على المسير ، كان عليه أوﻻ أن يجد ما يسد به رمقه ، تذكر الورقة النقدية من فئة خمسين فرنك فرنسي التي أعطتها له المرأة ذات القبعة السوداء التي إلتقى بها قرب الحافلة التي قدم تحتها فقرر الذهاب إلى المقهى الذي تعمل فيه النادلة الشقراء ، لم يكن المقهى يبعد كثيرا عن الشارع الذي كان يسير فيه .

مرت دقائق قليلة وجد يونس نفسه أمام واجهة المقهى ، أثارت هيئته الغريبة إنتباه بعض الزبناء الجالسين في الخارج لكنه لم يكترث لنظراتهم ، كان همه الوحيد هو أن تخرج النادلة الشقراء أو أن ترفع بصرها لتراه من خلف الزجاج لكنها كانت منشغلة بعملها في الداخل ، لم يكن أمامه سوى الإقدام و الدخول إلى المقهى ، أخرج الورقة النقدية من جيبه و قصد باب المقهى ، لم تشعر النادلة الشقراء بشيء حتى وجدت يونس واقفا أمامها ، رفعت بصرها في وجهه و بدت عليها علامات الإستغراب و هي تتمعن للحظات في حالته البئيسة و كأنها كانت تقول في نفسها : ما الذي جاء بهذا الغريب المتشرد إلى هنا مرة أخرى ! .

إنحنى يونس أمامها برأسه قليلا و إبتسامة خجولة تعلو وجهه الشاحب ، مد إليها الورقة النقدية دون أن ينبس ببنت شفة ، أخذتها منه النادلة و راحت تقلبها بين أصابعها بإستغراب ثم رفعت بصرها في وجهه من جديد ، توجهت إليه في هدوء ببعض الكلمات لم يفهم منها يونس شيئا ، كانت تلك أول مرة في حياته يخاطبه شخص باللغة الإسبانية ، رفع يده إلى فمه و أشار إليها بأنه يريد أن يأكل ، خاطبته مرة أخرى ببعض الكلمات فرد عليها ببعض الكلمات المبعثرة تداخل فيها العربي بالفرنسي ، شد صوته المبحوح إنتباه النادلة الشقراء فراحت تقلب النظر في حالته من جديد ، بدت علامات التأثر بادية عليها من خلال بعض تعابير وجهها ، صرفت نظرها عنه و راحت تفكر في ما يمكن أن تفعله مع هذا الغريب ،

أرجعت إليه الورقة النقدية ثم أمسكته بلطف من ذراعه و إصطحبته إلى خارج المقهى و راحت تقلب نظرها في الطاوﻻت المرتبة بعناية على الرصيف و كأنها تبحث عن واحدة تليق بهيئة هذا الغريب ، أخذته في النهاية إلى طاولة معزولة و أشارت إليه بالجلوس ، جلس يونس كطفل صغير و نظراته تتابع خطوات النادلة الشقراء و هي تعود إلى داخل المقهى ، ظل جالسا في مكانه و عيناه تراقب تحركات النادلة كلما خرجت لتلبي طلبات الزبناء الجالسين في الخارج .
بينما يونس على تلك الحال شد إنتباهه وقوف سيارة شرطة بالقرب من تمثال رجل البرونز فتحركت بداخله هواجس الخوف و الريبة ، شك في نية النادلة و ظن بأنها تكون قد إتصلت بالشرطة و أبلغت عنه

فكان أن تأججت في صدره كثير من المخاوف ، أشعل سيجارة و راح يتفاوض مع نفسه و مع الخيارات الصعبة المطروحة أمامه ، بدا له خيار الإنسحاب سليما نهض من مكانه و هم بالإنصراف و إذا بالنادلة الشقراء تخرج من المقهى و هي تحمل في يدها طبقا و تسير في إتجاهه ، عاد ليجلس و الخجل يكاد يخنق أنفاسه ، نظر إليها بإستحياء و هي تضع أمامه كوبا كبيرا من الشاي و بعض القطع من الخبز المحشوة بالجبن و كأس عصير برتقال .
عادت الروح من جديد إلى جسد يونس المنهك بعد أن إنتهى من أكل كل ما كان في الطبق ، بقي جالسا هناك ينتظر خروجها ، توجه نحوها و إنحنى أمامها برأسه مرة أخرى و هو يمد إليها الورقة النقدية من جديد لكنها رفضتها بإبتسامة خفيفة ،

جدد شكره إليها بلغة الإشارة ثم إبتعد عن المقهى و هو في أحسن حال .
إنتبه يونس في طريقه إلى تغير شكل المباني عند نهاية أحد الشوارع فقرر السير فيه ، سار حوالي نصف ساعة من الزمن و هو يستدير بين الحين والآخر خلفه حتى يتذكر طريق العودة إلى ملتقى الطرق حيث تمثال رجل البرونز و المقهى الذي تعمل فيه النادلة الشقراء ، تابع سيره إلى أن وصل إلى حي شعبي به منازل سكنية قليلة الإرتفاع تجمعها دروب ضيقة و طويلة ، بدا له عند نهاية ذلك الحي جبل قريب فعلم أنه يسير في الاتجاه الصحيح ، مر في طريقه على ملعب كبير محاط بالأسلاك به شباب في مثل سنه يلعبون كرة القدم فأخذه الشوق و الحنين إلى الديار ، تذكر أصدقائه بملعب الشومينو أيام الأحد فشعر بالندم على تلك الأيام الجميلة التي خلفها وراءه .

واصل يونس طريقه إلى أن وجد نفسه في الخلاء إستدار خلفه فبدت له مدينة لوركا الصغيرة ترقد على سفح جبل ، و هو واقف في ذاك المكان أثار إنتباهه طريق غير معبد يقود إلى منزل جهة اليمين و طريق آخر يمضي إلى منزل آخر جهة اليسار ، لجأ إلى شجرة قريبة و جلس تحت ظلالها الوافرة ، أشعل سيجارة و راح يراقب المنزلين البعيدين عن المدينة بكيلومتر واحد على أكثر تقدير .
شاهد يونس بعض الأطفال يلعبون بالقرب من المنزل الذي على يمينه و سرعان ما خرجت منه إمرأة ترتدي فستانا أبيض ، فصرف نظره عن ذلك المنزل و ركز إنتباهه على المنزل الآخر المتواجد جهة اليسار ، بدا له من بعيد خاليا من أي حركة أو نشاط فجلس يراقبه قرابة ساعة من الزمن و عيناه تغفوان بين الحين والآخر من طول السهر ليلة البارحة .

شق يونس طريقه نحو ذلك المنزل الذي بدا له مهجورا ، إستدار خلفه فرأى المرأة ذات الفستان الأبيض واقفة أمام منزلها تراقبه من بعيد توجس منها خيفة لكنه لم يكن يملك خيارا آخر سوى المضي قدما كيفما كانت المفاجآت و مهما كانت العواقب ، كان المنزل يقع على أرض خالية جرداء موحشة إقترب منه و ظل واقفا أمامه للحظات طويلة يستكشف ببصره و سمعه كل زاوية و كل ركن من أركانه ، قام بجولة صغيرة خلفه فلم يجد سوى الهدوء و السكون فآزدادت نفسه راحة و إطمئنانا ، إقترب من الباب فوجده مقفلا بإحكام فتركه و توجه في هدوء إلى نافذة كبيرة على جانبه الأيمن ، لم تكن النافذة على علو مرتفع ، أخذ يونس في يده حجرا و نقر به طرفا من الزجاج ثم أدخل يده و فتحها على مصراعيها ،

قفز بسلاسة فوجد نفسه أخيرا داخل المنزل وسط " صالة " فسيحة بلا جدران بها أرائك كبيرة مغطاة بأغطية بيضاء تغير لونها من كثرة الغبار ، تفقد يونس جنبات المطبخ و باقي الغرف ثم صعد إلى الطابق العلوي فلم يجد سوى غرفا فارغة فإزدادت نفسه إطمئنانا لخلو المكان .
نزل إلى الأسفل و ألقى بنظره من خلف زجاج النافذة فرأى المرأة ذات الفستان الأبيض ﻻ تزال واقفة في مكانها مع آمرأة أخرى و عيونهما تراقب المنزل المحهور .
كان يونس بحاجة شديدة إلى النوم بعد طول الليلة السوداء التي قضاها البارحة في الحديقة كالمتشرد المجنون...نزع الأغطية من فوق الأرائك و إستلقى فوق واحدة منها بعد أن سلم مصيره لخالقه و دعاه أن يصرف عنه نظر المرأة صاحبة الفستان الأبيض .

نام يونس نوما عميقا دون أن يؤرق مضجعه أحد إلى أن إستفاق بعد ساعات طويلة ليجد نفسه في منزله الجديد ، نهض من مكانه و إقترب بحذر من النافذة بدا له كل شيء هادئ فإستبشر خيرا و أحس بنوع من السكينة و الهدوء ، أخرج علبة السجائر من جيبه فوجدها فارغة ، عاد ليجلس على أريكته بعد أن إستطابله المقام داخل المنزل لكنه كان بحاجة إلى البحث عن الطعام و السجائر قبل حلول الظلام .
ترك المنزل في إتجاه وسط المدينة ، مر في طريقه على ملعب كرة القدم ثم سلك الشارع الطويل إلى أن وصل إلى ملتقى الطرق حيث يوجد تمثال رجل البرونز ، كان الأمر في غاية البساطة ،

زادت ثقته بنفسه قليلا ، لم بعد يشعر بالغربة كما كان يشعر بها من قبل ، إقترب من المقهى الذي تعمل فيه النادلة الشقراء ،ظل ينتظر رؤيتها من بعيد لكنها لم تكن هناك ، تحرك من مكانه في إتجاه شوارع أخرى قريبة من ملتقى الطرق لعل الحظ يجود عليه بمفاجأة سارة ، مر في طريقة بالقرب من محل تجاري بدا له من خلال صورة معلقة على واجهته بأنه محل لبيع السجائر دخل و هو يحمل في يده ورقة الخمسين فرنك فرنسي التي بحوزته أعطاها لصاحب المحل و طلب منه بلغة الإشاره علبة سجائر لكن صاحب المحل رفض و أشار إليه بالخروج ، شعر يونس بالظلم و الإهانة لكنه لم يكن قادرا على فعل شيء ،

رجع مكسور الخاطر في إتجاه ملتقى الطرق ، ظل يتسكع هناك إلى أن قاربت الشمس وقت الغروب ، كان عليه أن يعود إلى المنزل المهجور قبل حلول الظلام لكن كان عليه قبل ذلك أن يبحث له عن طعام فهو لم يأكل شيئا منذ فطور الصباح ، فكر في الدخول إلى أحد المطاعم بورقته النقدية لعله يجد شخصا في مثل جود و كرم النادلة الشقراء ، تذكر الإهانة التي تلقاها من صاحب محل بيع السجائر فصرف نظره عما كان ينوي فعله .
ولى يونس أدراجه و هو يجر وراءه ذيول الجوع و الخيبة ، مضى في طريقه شارد الذهن إلى أن إستوقفه منظر شاحنة صغيرة تفرغ عشوائيا حمولتها داخل صندوق موضوع على الرصيف ، توقف و ظل يراقب من بعيد ، لم يكن يعلم أن ذلك الصندوق الذي سبق له أن مر بجانبه هو حاوية أزبال ،

رحلت الشاحنة فإتجه يونس نحو الصندوق رفع عنه الغطاء و راح يأكل كل ما بدا له صالحا... تنازل يونس عن كثير من المبادئ ، لم تعد الكرامة و عزة النفس تعني له شيئا أمام حاجته للطعام ، أكمل طريقه نحو المنزل المهجور و هو يحمع بين الحين والآخر بقايا و أعقاب السجائر من الأرض بعد أن إستباح لنفسه كل شيء .
وصل إلى مشارف المدينة و سلك الطريق غير المعبد في إتجاه المنزل المهجور تحت أنظار شخصين كانا يقفان أمام المنزل الآخر .
وصل إلى المنزل و إستدار خلفه قبل أن يدخل من النافذة بدا له و كأن كل أفراد عائلة المنزل الآخر هبوا لمراقبته ، لقد بات تحت إهتمامهم البالغ ، لم يعد يعرف إن كان سيقضي ليلته تلك في ذلك المنزل المهجور أم بين جدران زنزانة سجن .

فضل البقاء في الخارج ، جلس على الأرض و أسند ظهره إلى الحائط ، وضع بجانبه بقايا و أعقاب السجائر و أطلق العنان لذاكرته و خياله لعلهما يأخذانه بعيدا عن ذلك المكان .
مرت ساعات طويلة و هو جالس لوحده وسط الظلام بعيدا عن أضواء مدينة لوركا الصغيرة ، تذكر أفراد عائلته و تمنى لو أنه أبلغهم برحيله قبل الرحيل ، كان الندم يعتصر قلبه كلما تخيل حالهم بعد غيابه عن البيت ، عادت به الذاكرة إلى الأيام الجميلة التي لم يكتب لها الدوام ، أرقه الحنين إلى كل شيء من ماضيه فحاول إلهاء ذاكرته بأمور أخرى و هو يمني نفسه بأنه يوما ما سيعود .
إنقضى وقت أول الليل و بدأت درجة الحرارة في الإنخفاظ كما في الليلة الماضية فإضطر يونس إلى الدخول ، كان الظلام شديدا داخل المنزل ،

أشعل عود ثقاب أنار به طريقه نحو أريكته ، إستلقى عليها و غطى جسمه بكل الأغطية التي جمعها في الصباح ثم عاود السهر مع نفسه من جديد حتى أخذه النوم إلى عالم آخر .
كان يونس نائما حينما إخترق سكون الليل و هدوء المكان صوت ماء يسيل من الحنفية ، دام الصوت و إستمر للحظات طويلة إستيقظ على إثره يونس من سباته العميق ، ظن في البداية أنه يحلم ، حرك يديه و بدأ يتحسس أطراف جسمه فتيقن بأنه مستيقظ و في كامل وعيه ، كشف الغطاء عن رأسه ببطء و راح ينصت من جديد ، كان الصوت يأتي من خلفه ، من المطبخ الذي لم يكن يبعد عنه سوى بضعة أمتار ، تذكر يونس أنه لما دخل إلى المنزل لأول مرة فتح حنفية المطبخ و لم يكن بها ماء ، قال في نفسه ربما يكون قد نسي الحنفية مفتوحة و أن صبيب الماء عاد إلى المنزل في هذا الوقت من الليل ،

إنقطع الصوت فعم المكان سكون قاتل من جديد ، بدأ الخوف يدب في نفس يونس و تسارعت دقات قلبه ، تصلبت أطراف جسمه و تجمد الدم في عروقه لما سمع قرع نعال من جهة السلالم ، كان الصوت واضحا و كأن شخصا ينزل إلى أسفل المنزل و يسير في إتجاه المطبخ بهدوء ، عاد صوت ماء الحنفية من جديد صاحبته أصوات أخرى و كأن شخصا ما يغسل الأواني و الصحون .
خشع بصر يونس في الظلام ، حبس كل أنفاسه حتى كادت روحه تعود إلى بارئها ، ظل يدعو و يردد آية الكرسي في نفسه و عينه على النافذة التي بدت له بعيدة جدا ، إستمر خلفه قرع النعال و صوت الأواني فإنتفض فجأة كالمجنون ، لم يشعر بشيء حتى وجد نفسه خارج المنزل ملقى على الأرض و عينه على النافذة ، نهض من مكانه و بدأ يركض في الظلام حافي القدمين ،

كان الطقس باردا جدا إلى حد ﻻ يطاق ، لم يكن هناك مكان آخر يأوي إليه يونس غير ذلك المنزل ، كاد الصقيع يقتله فلم يجد أمامه سوى الإقتراب من المنزل و الإحتماء بجداره ، رجع و هو يصرج بأعلى صوته و كأنه فقد عقله :" يايايا ربيي واش غي البرد برا و جنون لداخل ..." إتكأ على حائط المنزل و هو يسائل نفسه ماذا فعل في حياته حتى تلاحقه المحن و المصائب كما يلاحق ذئب جائع خطوات حمل وديع .

"" يتبع ""

تاريخ النشر: 31-10-2019 م