جدار الذكريات الجزء الأول


جدار الذكريات الجزء الأول

المصدر : عبد الكريم السالمي

كانت الساعة تشير إلى الثانية زوالا إلا ربع ، لم يعد يفصل عن موعد الإلتحاق بأقسام الدراسة سوى بضع دقائق...تلاميذ من مختلف الأعمار يخرجون تباعا من أزقة و دروب حي المير علي الضيقة ، الغالبية منهم كانت تفضل المرور عبر القنطرة الصغيرة للوصول إلى إعدادية عبد الخالق الطريس النائمة فوق الضفة الأخرى من الوادي الصغير في حين كان البعض الآخر خاصة الذكور منهم يفضلون آجتياز مجرى ذلك الوادي من أماكن مختلفة .

نسي جمال كعادته دائما موعد آلتحاقه بالاعدادية ، كان منهمكا في لعب لعبة ( الرامي ) مع بعض أقرانه من أبناء الحي الذين كانوا قد تخلوا عن الدراسة في وقت مبكر ، لم يوقظه من غفلته تلك سوى صوت أخته الصاخب القادم من بعيد ، ترك حزمة الأوراق التي كان يحملها بين يديه و هو يتمتم ببعض الكلمات الساخطة ثم توجه مسرعا نحو المنزل تحت وابل من عبارات السب و الشتم و النصائح الفاضحة التي لا تنتهي ، لم تؤثر كلمات أخته في نفسه كثيرا ؛ لقد تعود على سماعها كل يوم منذ أن كان طفلا صغيراً .

رمى بمحفظته فوق ظهره و أغلق باب المنزل وراءه ثم سار بهدوء نحو الإعدادية حيث كان يتابع دراسته في المستوى الثالث ، نزل حافة مجرى الوادي الصغير الذي يفصل بين الإعدادية و بين منزل عائلته ثم صعد الحافة الأخرى بسلاسة معهودة . كان مجرى ذلك الوادي الخالي من تدفق المياه صغيرا جدا ، لقد تعود على آجتيازه في ثواني معدودة منذ أن كان طفلاً صغيراً ، لقد قضى معظم طفولته في اللهو و اللعب على جنبات ذلك الوادي الصغير .

كان جمال قد قضى ثلاث سنوات في الدراسة بإعدادية عبد الخالق الطريس و كان عليه أن يقطع كل يوم نصف دورة كاملة حولها و هو يسير على قدميه بمحاذاة جدارها الطويل حتى يتمكن من الوصول إلى بابها الرئيسي الموجود في الجهة الأخرى .

لماذا لا أتسلق هذا الجدار ؟

ماذا لو جربت هذه المرة ؟

قد تنجح المحاولة و أخلص نفسي من عناء هذا الطريق الطويل ، تغلغلت فكرة تسلق الجدار عميقا في ذهن جمال وآجتاحت روحه رغبة ملحة في خوض غمار تلك المغامرة المحفوفة بالمخاطر فتوقف عن السير و راح يتطلع مليا في ذلك الجدار الطويل ، كانت تلك هي المرة الأولى التي يفكر فيها في تسلق جدار المؤسسة التي قضى فيها ثلاث سنوات من الدراسة و لا زال ، إستدار خلفه فلاح بناظره نحو منزل عائلته الذي لم يكن يبعد عنه سوى بضعة أمتار ثم حول بصره مرة أخرى نحو جدار المؤسسة و راح يتأمل فيه من جديد ؛. بدا له القسم الذي يدرس فيه أقرب إليه بكثير من باب المؤسسة البعيد .

في لحظة عابرة تراءت له بين عينيه عواقب فكرته المجنونة ، لم يسبق له أن سمع اي تلميذ من أبناء حيه يتحدث عن دخوله إلى الإعدادية عبر تسلق جدارها ، خاف من سوء العاقبة فهم بمواصلة طريقه الطويل .

كان يمشي بخطى متثاقلة و عيناه مشدودتان إلى جدار المؤسسة و كأنه يراه لأول مرة في حياته ، بدا في حركاته البطيئة كسائح صغير استوقفه نصب تذكاري أو جدار من جدران الآثار التاريخية القديمة ، إجتاحت عقله مرة اخرى روح المغامرة فتوقف عن السير و راح يتأمل في الجدار من جديد ، لم تكن عيناه الصغيرتان تستكشفان طول و صلابة ذلك الجدار بقدر ما كانتا تبحثان عن ثقوب أو شقوق تساعدانه في تنفيذ خطته بإحكام .
حول بصره جهة اليمين فبدا له المسار الذي يجب عليه ان يقطعه حتى يصل إلى باب المؤسسة طويلا جدا .

في ذلك الوقت الذي كان فيه جمال لا يزال يفكر و يخطط لمغامرته الفريدة سمع رنة جرس الدخول إلى الإعدادية ، كانت الساعة تشير آنذاك إلى الثانية إلا خمس دقائق ، كانت تلك الدقائق المتبقية تكفيه للوصول إلى باب المؤسسة ؛ فكر في إطلاق ساقيه للريح لكن شيئا ما في داخله كان يدفعه إلى تسلق ذلك الجدار... لعله الفضول وحب المغامرة و لعله طيش الشباب الذي حل في نفسه قبل الأوان ، ظل واقفا في مكانه و نفسه تصارع في صمت تارة امواج التردد و تارة اخرى أمواج الإقدام .
مر الوقت بسرعة و ضاعت تلك الدقائق المعدودة التي كانت تكفيه للوصول إلى باب الإعدادية فتيقن بأنه لن يصل في الوقت المناسب و حتى و إن وصل فسيجد في انتظاره حتما ذلك الحارس العام الصارم الذي لا يرحم كل من سولت له نفسه مخالفة النظام الداخلي للمؤسسة .

لم يعد الوقت يكفي لمزيد من الإنتظار و لم يعد امام جمال حل آخر سوى تسلق الجدار .
ربط جيدا محفظته على كتفيه و آلتفت عن يمينه و عن شماله ليتاكد من خلو المكان ثم انطلق بسرعة البرق صوب إحدى الفتحات الضيقة الممتدة على طول الجدار ، بضع ثوان معدودة كانت تكفيه ليجد نفسه واقفا فوق جدار المؤسسة ، وزنه الخفيف و نحافة جسمه و تجربته الطويلة في تسلق جدران المنازل بحثا عن اعشاش الطيور كل تلك العوامل ساعدته كثيرا في نجاح عملية التسلق بدون أية متاعب ، اشجار الصنوبر الكثيفة الواقعة داخل حرم الإعدادية كانت تحجبه بالكامل عن الأنظار ، لم يكن بإمكان اي أحد ان يراه من داخل المؤسسة في حين كان هو يرى بوضوح كل ما يجري في فنائها ؛ تلاميذ يمشون فوق الممرات صوب ساحة الرياضة و اخرون يصطفون بانتظام أمام الأقسام...

كل شيء كان يبدو له عاديا إلا تواجده الغريب في ذلك المكان الذي كان يقف فيه فوق الجدار .

# يتبع #

تاريخ النشر: 04-10-2020 م