جدار الذكريات الجزء الثاني


جدار الذكريات الجزء الثاني

المصدر : عبد الكريم السالمي

كانت أشجار الصنوبر الواقعة داخل حرم الإعدادية تحجب جمال بالكامل ، لم يكن بإمكان أحد أن يراه من داخل المؤسسة في حين كان هو يرى كل شيء ؛ تلاميذ يمشون في الممرات صوب ساحة الرياضة و آخرون يصطفون بآنتظام أمام الأقسام...
كل شيء كان يبدو له عاديا إلا تواجده الغريب في ذلك المكان الذي كان يقف فيه فوق الجدار .

كان على جمال ان يتصرف بسرعة و بحذر شديد حتى ينجو بفعلته و يصل إلى القسم بسلام ، مد يده نحو جذع شجرة صنوبر ثم أمسك بيده الأخرى أحد فروعها القريبة ؛ كان النزول من الشجرة أسهل عليه بكثير من تسلق الجدار ، جثا بركبتيه على الأرض و راح يتفحص بعينين ثاقبتين كل شيء من حوله ، لم تكن الأقسام المخصصة لمادة العلوم الطبيعية تبعد عنه سوى ببضعة أمتار ؛ على يمينه كان يرى بوضوح المراحيض و مستودعات الملابس الخاصة بحصص التربية البدنية ؛ كانت حركة التلاميذ حول كل تلك الأماكن تضفي على نفسه نوعا من الطمأنينة و الإرتياح لكنه لم يكن يهتم بأمر التلاميذ و لا الأساتذة و لا حتى مدير المؤسسة ؛ كان هاجسه الأكبر و المفزع هو السيد الحارس العام .

ظل قابعا في مكانه بضع لحظات و عيناه تتفحصان بدقة كل شيء يتحرك من حوله إلى أن آطمأنت نفسه و تيقن بأنه سينجو بفعلته و بأنه لن يصيبه أي مكروه فخرج بسرعة البرق من مخبئه كنمر صغير كان يتحين الفرصة المناسبة للإنقضاض على فريسته . خطا بضع خطوات مسرعا ثم آعتدل في مشيته و أكمل طريقه نحو القسم الذي سيدرس فيه و كأن شيئا لم يكن ، آنتظمت نبضات قلبه بعد أن آسترجع بعض أنفاسه .

أخيرا ولجت قدماه باب القسم بسلام ، توجه مباشرة نحو المقعد الذي آعتاد الجلوس فيه ؛ كان يمشي بخطى ثابتة مرفوع الراس كجندي عاد للتو من ساحة المعركة و هو يحمل على صدره وسام الأبطال الفاتحين .

وضع محفظته فوق الطاولة ثم استوى في جلسته دون أن يكلم احدا من رفاقه ، بدا في ذلك اليوم هادئا على غير عادته . إبتدأ الدرس شادا إليه سمع و آنتباه كل التلاميذ إلا جمال ؛ لقد كان شارذ الذهن تماما ؛ لم يكن يستمع لشروحات الأستاذ بقدر ما كان يستمتع في أعماق نفسه بنشوة نجاح مغامرته الفريدة .

إنتهت المحاولة الأولى لتسلق جدار الإعدادية بنجاح ثم تلتها كل يوم محاولات أخرى ناجحة ، لم يعد جمال مضطرا للخروج من المنزل باكرا و لم يعد بحاجة إلى الدوران نصف دورة كاملة حول الإعدادية حتى يصل إلى بابها الرئيسي .

استمر مسلسل مغامراته اسبوعا كاملا من دون اية مشاكل و أصبح تسلق الجدار و النزول منه امرا عاديا بالنسبة إليه. كان قد عقد العزم على إبقاء مغامراته سرا بينه و بين نفسه منذ نجاح أول محاولة لتسلق الجدار لكنه مع مرور الوقت بدأ يشعر و كأن شيئا ما ينقصه ، كان يرى في نفسه بطلا لكنه في ذات الوقت كان بطلا نكرة ، بطل من دون معجبين و لا محبين ، كان بحاجة إلى من يعبر له عن إعجابه بما يقوم به ، كان بحاجة إلى شهادة آعتراف تدغدغ روحه و مسامعه .
مع مرور الوقت اصبح سر تلك المغامرة عبئا ثقيلا على قلب جمال و لم يعد قادرا على حمله و كتمانه داخل نفسه .

ذات ليلة و بينما هو جالس على حافة الوادي الصغير مع صديقه عمر يتجاذبان أطراف الحديث و من دون مقدمات كشف له عن سره الدفين بعد ان آستحلفه بأن لا يخبر به أحدا .
كان عمر هو الآخر يتابع دراسته بإعدادية عبد الخالق الطريس ، كان تلميذا مشاغبا معروفا بسجله الحافل بالغيابات و التأخرات عن مواعيد الدراسة ؛ لم يكن يعير لدراسته أي آهتمام ؛ كثيراً ما كان يسقط في امتحانات آخر السنة و كثيرآ ما كان ينجح فيها بقدرة قادر .

إستحسن عمر فكرة صديقه جمال بمجرد أن سمعها منه و أثنى عليه ثم أخبره بأنه سيرافقه كل يوم في مغامراته المشوقة و الفريدة ، لم يكن جمال بحاجة إلى مرافق و لا إلى مؤنس ، كانت غايته الوحيدة هي إيجاد متنفس صغير لذلك السر الذي بات يثقل كاهله ، شعر بأنه آرتكب خطأ فادحا قد يكلفه غاليا ، لم يكن عليه إخبار أي احد بذلك السر خصوصا صديقه عمر المعروف بتهوره و بثقته في النفس الزائدة عن اللزوم ، إستسلم لرغبة صديقه و الندم يكاد يحبس أنفاسه ؛ كان عزاؤه الوحيد هو طمأنة عمر له بإبقاء ذلك السر بينهما و استحالة ذكره لأي أحد آخر .

ابتدا مسلسل الرفقة على عجل و مر اليومان الأولان بسلام و من دون اية مشاكل لكن سرعان ما شعر عمر برغبته في تحقيق إنجاز آخر يفوق ما حققه صديقه فآقترح عليه ذات يوم الخروج من الإعدادية عبر تسلق الجدار كذلك . رفض جمال الفكرة تمامآ من أولها لما فيها من مجازفة بالغة الخطورة... استمر الجدال بينهما دون ان يوفق احدهما في إقناع الآخر .

حاول جمال جاهدا أن يوضح لصديقه بأن وجهة التلاميذ الوحيدة عند الخروج هي باب المؤسسة الرئيسي و بأنه لا يمكن لأي أحد منهم أن يسلك طريقا آخر دون ان يثير انتباه أحد من الأطقم الإدارية أو التربوية لكن عمر ظل متشبثا برأيه ، لقد كان يعتبر الخروج من الإعدادية عبر تسلق جدارها إنجازا يفوق إنجاز صديقه لما فيه من جرأة و إقدام .

لم تزده معارضة صديقه له سوى العزم و الإصرار على رأيه فقرر تنفيذ ما كان يدور في راسه .
في صباح اليوم الموالي و بعد أن رن الجرس في تمام الساعة الثانية عشر خرج التلاميذ من اقسامهم فساروا نحو وجهتهم الوحيدة كأمواج البحر الهاربة نحو الشاطئ ، كانت وجهة الجميع كالعادة هي الباب الرئيسي للإعدادية ،
بحث جمال عن صديقه عمر بالقرب من القسم الذي كان يدرس فيه فلم يجد له أثرا فتابع سيره نحو باب المؤسسة كباقي التلاميذ و عيناه تتفحصان بدقة كل الوجوه السائرة من حوله ،

في لحظة عابرة إستدار خلفه ثم وقف وسط تلك الأمواج البشرية فإذا به يرمق صديقه من بعيد يسبح وحيداً عكس التيار ، كان يمشي فوق ذلك الممر الطويل الذي ينتهي به عند حدود أقسام العلوم الطبيعية المعزولة عن باقي الأقسام الأخرى ... لم تكن عين جمال هي الوحيدة التي كانت تتعقب خطوات صديقه المتهور بل كانت هناك عين أخرى تراقبه من بعيد .

## يتبع ##

تاريخ النشر: 08-10-2020 م