جدار الذكريات الجزء الأخير


جدار الذكريات الجزء الأخير

المصدر : عبد الكريم السالمي

... كان عمر يمشي فوق ذلك الممر الطويل الذي ينتهي عند حدود أقسام العلوم الطبيعية المعزولة عن باقي أقسام الإعدادية ، لم تكن عين صديقه هي الوحيدة التي كانت تتعقب خطواته بل كانت هناك عين أخرى تراقبه و تتعقب مساره من بعيد .
خرج جمال من باب الإعدادية ثم قطع نصف دورة كاملة إلى ان وصل إلى مشارف الوادي الصغير حيث وجد صديقه عمر ينتظره بفارغ الصبر ؛ كانت الفرحة بادية جليا على ملامحه بل و حتى في حركاته البهلوانية .

لاذ جمال بالصمت و استسلم لسماع خطب الشجاعة و النصر التي لا تنتهي ، كان عمر يتحدث بلغة البطل الشجاع الذي لا يتراجع إلى الوراء و لا يهاب خوض غمار المجهول . لم يتوقف عن الكلام إلا بعد أن وطأت قدماه عتبة منزل عائلته .
قبل ان يودع جمال صديقه اخبره بأنه لن يرافقه إلى الإعدادية في فترة الزوال لأن جدوله الزمني للدراسة خال من أي حصة دراسية ، إستودعا بعضهما البعض على أمل اللقاء في الليل .
رن جرس الدخول إلى الإعدادية على الساعة الثانية زوالا إلا خمس دقائق فخرج عمر من المنزل قاصدا جدار المؤسسة لوحده ؛

قطع الوادي الصغير تحت أنظار صديقه جمال الذي خرج من المنزل في ذلك الوقت ليراقب حركات صديقه و هو يتسلق الجدار . لقد رآه و هو يختفي بين أشجار الصنوبر لكنه لم يكن يعلم ماذا سيحل به بعد ذلك ، لم يكن يعلم بأن أبواب الجحيم ستفتح قريبا على كل مصاريعها في وجه صديقه...

لم يكن يعلم بأنه سيقع رهن الإعتقال و بأنه سيساق تحت التهديد و الوعيد إلى حيث سيعاقب على فعلته الخارجة عن المألوف .
تلك كانت هي نتيجة تهور عمر الزائد عن اللزوم و ذلك هو ما قاده إليه تصرفه الخاطئ الذي ارتكبه صباح ذلك اليوم حين كان يسير وحيدا عكس التيار ؛ لم يكن يعلم حينها بأن هناك عينا كانت تراقبه و بأنها تعقبت مساره حتى آختفى بين الأشجار...

كانت تلك العين هي عين السيد الحارس العام التي لم تكن تخفى عليها خافية لا في سماء الإعدادية و لا في أرضها ، لقد كان ذلك الموظف مشبعا بالمسؤولية إلى حد التخمة ؛ كان هدفه الوحيد هو إخراج أجيال سوية في شخصيتها و أخلاقها و معاملاتها بل و حتى في لباسها و هيأتها... كثيرآ ما كان يطرد تلميذا يراه بشعر كثيف مجعد و كثيرآ ما كان يعترض طريق تلميذة بمجرد رؤيتها تلج باب المؤسسة بدون وزرتها البيضاء .
خرج عمر من بين الأشجار ثم توقف لحظة و راح ينفض بهدوء تام بعض التراب الخفيف العالق بيديه دون حرص و لا مبالاة لأي شيء ثم أكمل طريقه صوب أقسام العلوم الطبيعية ،

فجأة أحس بيد غليظة تمسك رقبته بعنف ، تجمد الدم في عروقه و آنحبست الأنفاس في حلقه كما تنحبس أنفاس روح كافرة وقعت في قبضة ملك الموت ، لم تكن هناك أي فرصة للفرار ؛ في تلك اللحظة حتى التفكير في القيام بمحاولة هروب كان ضربا من ضروب المستحيل .
استسلم عمر لمصيره الغامض و تم اقتياده نحو إدارة المؤسسة تحت وابل من الصفعات و التهديد و الوعيد ، كل ذلك وقع تحت أنظار التلاميذ الذين تجمهروا ليتابعوا ذلك المشهد الذي لا يتكرر إلا نادرا جدآ ، بدا حال عمر كحال سجين ألقي عليه القبض بعد محاولة هروب فاشلة .

في الوقت الذي كان فيه جمال يستمتع بوقته الفارغ بين ازقة و دروب الحي كان صديقه يساق إلى إدارة المؤسسة كما يساق معتقل سياسي إلى مكاتب الاستنطاق و التحقيق .

تم إدخال عمر إلى أحد المكاتب حيث وجد في استقباله كل الطاقم الإداري للمؤسسة ، إرتفع مستوى التوتر و تعالت الصيحات و الصرخات حوله من كل جانب ، لم يكن قادرا على النظر في وجه اي احد من المحيطين به ، طأطأ رأسه و التزم بالصمت ، كان يحاول ان يتظاهر بالحسرة و الندم عله يحرك في نفس بعض ممن كانوا من حوله قليلا من الرأفة أو يمتص من قلوبهم جرعة عطف عابرة ، كانت امنيته الوحيدة و هو يعيش تلك اللحظات القاتلة هو ان ينجو من العقاب البدني أما القرارات الأخرى كلها فلن تكون سوى مجرد تفاصيل صغيرة في مساره الدراسي المحكوم عليه بالفشل منذ زمن طويل .

كل شيء كان ضده... الشهادات و التقارير و الدلائل و الشهود حتى ملفه المدرسي الموضوع فوق مكتب التحقيق و المليء بالغياب و بحالات الطرد و بالنقط الهزيلة و السقوط المتكرر وقف ضده... لقد خانه كل شيء و وقفت ضده أمور و اشياء كثيرة . استمر الإستنطاق و توسعت دائرة التحقيق و عمر جالس وحيدا امام تلك اللجنة الموسعة ، مر الوقت ببطء شديد و طالت كثيرا مدة تلك الجلسة التي غاب عنها المحامون و الشفعاء و هيئات الدفاع... حتى جمال امين السر و الشريك الفعلي في الجريمة كان من الغائبين .

لم يعد امام عمر سوى الرضوخ و الاستسلام لكل ذلك التهديد و الوعيد إن هو اراد أن يعجل غروب شمس ذلك اليوم المشؤوم ؛ خلع حذاءه و رفع رجليه فوق الطاولة فتوالت على الفور الضربات تلو الضربات حتى ما عاد هناك أمر آخر يستحق المزيد . فتح احد الموظفين باب المكتب و طلب من عمر الإنصراف و مغادرة الإعدادية ، لم يكن عمر حينها قادرا على المشي ؛ كان بالكاد يستطيع الوقوف على رجليه ؛ خطا بضع خطوات نحو الباب و عيناه تترجمان بحرقة ذلك الألم الصاعد من اسفل قدميه ، إستعاد المكتب هدوءه من جديد و حلت نظرات الصمت المتبادلة مكان عبارات الوداع الأخير .

اخيرا توقف كل شيء... توقف الصراخ و توقف التعذيب... توقف تسلق الجدار و توقف معه المسار الدراسي لعمر إلى الأبد .
مرت سنوات طويلة تابع فيها جمال دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا ثم رحل ليتابع دراسته بالخارج . لم يكن الواقع الذي وجده هناك في ديار الغربة رحيما به فخانه الحظ و دفعته الأحوال و الظروف الصعبة لترك الدراسة فتأزم وضعه القانوني أكثر و حرم من العودة إلى وطنه ، ظل على ذلك الحال سنين طويلة إلى ان تهيأت الظروف و ابتسم له الحظ من جديد فرجع ذات يوم إلى مسقط رأسه ليبدأ رحلة البحث عن ماضيه الذي خلفه وراءه و عن ذكرياته التي تركها معلقة على القلوب و الأشجار و الجدران...

وجد كل شيء كما تركه ، كل شيء كان لا يزال في مكانه إلا صديقه عمر الذي غاب طويلا عن الانظار .
حاول ان يقتفي اثره و يبحث عنه كلما رجع إلى أرض الوطن و كلما سمحت له الفرصة بذلك لكنه لم يكن يجد سوى اخبارا متضاربة عن أحواله و ظروفه و مكان إقامته .
مرت سنوات طويلة إحتفظ فيها جمال بذكرى صديق طفولته الذي بحث عنه في كل مكان و لم يعثر له على أثر إلى ان شاءت الأقدار أخيراً أن يجده صدفة ذات ليلة على صفحات الفضاء الأزرق .
اختلطت فرحة اللقاء بقرحة الفراق الطويل... تجدد اللقاء و تم ربط جسور و قنوات التواصل في الحين.... تواصلت بعد لقاء الصدفة لقاءات أخرى كثيرة بدون آنقطاع و عادت الذكريات لتحيا من جديد .

في إحدى ليالي السمر الإفتراضي بين جمال و عمر دار بينهما هذا الحوار القصير :
عمر : واش راك عاد عاقل على نهار كنا نقزو من حيط لليسي ؟
جمال : هههههه واااه... رديتني 30 عام للور أ صاحبي
عمر : يا حسراه على ديك ليام .
جمال : شوف حكيها لكريم فلميسنجر و قولو يكتب عليها
شي قصة هههههه.
عمر : هههههه صافي مشات

تاريخ النشر: 13-10-2020 م