ليلة في باريس الجزء الأول


ليلة في باريس الجزء الأول

المصدر : عبد الكريم السالمي

" تحدث في سطور عن مأساة وقعت لك في حياتك "

شكلت هذه الجملة موضوع مادة إنشائية طرحته أستاذة اللغة العربية على تلاميذها في أحد مستويات السنة الرابعة إعدادي ، كل شيء كان واضحاً تماماً ، لم يكن الموضوع يحتاج إلى مزيد من الشرح أو التفصيل ، تركت الأستاذة أمينة مكانها من أمام الصبورة و عادت لتجلس على كرسي مكتبها بعدما أمهلت تلاميذها مدة خمسين دقيقة لإنجاز الموضوع ، عم الهدوء داخل القسم و إنشغل كل تلميذ بنفسه ، عاد كل واحد منهم بذاكرته إلى الوراء عله يجد ما يزين به بياض ورقة الإمتحان ، إستغلت الأستاذة أمينة ذلك الهدوء فأخرجت من حقيبتها رواية صغيرة الحجم و راحت تتابع قراءة بعض صفحاتها ،

كانت بين الحين والآخر ترفع بصرها لتراقب تلاميذها المنهمكين في إنجاز الموضوع ، كل شيء كان يبدو لها عاديا إﻻ ذلك الذي كان يحدث مع هشام الجالس لوحده في المقعد الأخير .

لم يكن هشام يحمل في يده قلما و لم تكن تظهر عليه أي علامات الإهتمام بالموضوع ، كان يحلس كعادته في هدوء واضعا راحة يده اليسرى على خده و نظراته الحزينة تائهة داخل حدود مقعده الخشبي .

شدت حالة هشام إنتباه أستاذته فتركت روايتها جانبا و راحت تراقبه من بعيد ، أسئلة كثيرة راودت فكرها حول ذلك التلميذ الذي طالما شكل لغزا محيرا لها منذ بداية السنة الدراسية ، لم يكن هشام كغيره من التلاميذ ،

كان دائم الهدوء و العزلة و الإنزواء ، نظراته الحزينة التي ﻻ تفارق ملامح وجهه توحي بأنه يحمل في صدره هموما دفينة منذ زمن طويل ، كان مميزا في عزلته و نظراته و حتى في ملابسه دائمة الأناقة و التناسق و الجمال و كأن شخصا ما في حياته يحرص كل الحرص على خروجه من المنزل في أبهى و أجمل حلة .

مرت دقائق طويلة و الأستاذة أمينة تراقب تلميذها الذي ﻻ يزال يحافظ على هدوءه و عزوفه عن الكتابة ، دفعها الفضول لمعرفة ما الذي يجري مع ذلك التلميذ الغريب فكان أن تركت مكانها و راحت تمشي في هدوء بين الصفوف إلى أن وصلت إلى مكانه حيث يجلس دائما لوحده في المقعد الأخير ،

وضعت يديها خلفها و أسندت ظهرها إلى الحائط ، ظلت واقفة هناك لحظات من الزمن و هي تجوب بناظرها في أرجاء القسم و كأنها في دورة حراسة روتينية ، كل ذلك حتى ﻻ تشعر تلميذها بأنها قادمة من أجله ، كانت بين الحين والآخر تسرق النظر في ورقته الموضوعة أمامه ، بقيت على تلك الحال إلى أن رمقت عيناها جملة واحدة لم تتعد كلماتها حدود سطر واحد ، ظل هشام يحافظ على أدبه و هدوءه غير آبه بوجود أستاذته بالقرب منه ، لم تكن تبدو عليه أي علامات القلق أو الإرتباك ، بدا لها الأمر غريبا كغرابة ذلك الجواب القصير ، لم تستطع أن تكبح جماح فضولها فإنحنت برأسها قليلا نحوه و نظرت في وجهه و إبتسامة خفيفة تعلو ملامح وجهها .

" لماذا لا تكتب يا ولدي ؟ "
" لقد إنتهيت يا أستاذة ".
إنتهيت ! جيد .
عادت الأستاذة أمينة إلى مكتبها و هي تفكر في ذلك التلميذ الغريب الذي لخص في جملة قصيرة جداً موضوعا إنشائيا يتطلب إنجازه ساعة من الزمن ، دامت حيرتها و إستغرابها إلى درجة ساورتها الشكوك في طريقة صياغتها لسؤال الإمتحان فراحت تتطلع إلى السبورة لتعيد قراءة السؤال من جديد ، لم يكن أمامها سوى أن تنتظر إنتهاء المدة التي حددتها لتلاميذها حتى تعرف كيف تفاعل هشام مع الموضوع و كبف إستطاع بسحر كلماته أن يختصره في بضع كلمات يتيمة .

إنتهى الوقت المحدد فطلبت الأستاذة أمينة من جميع التلاميذ إحضار أوراق الإمتحان إلى مكتبها ، لم يمر وقت طويل حتى لبى الجمبع النداء ، كان من عادتها في مثل تلك المناسبات أن تضع كل الأوراق في محفظتها لتأخذها معها لكنها في ذلك اليوم لم تكن قادرة على الإنتظار حتى تصل إلى المنزل ، فضول الإطلاع على ورقة هشام كان يفوق رغبتها في العودة إلى البيت ، لم يسبق لها أن آختبرت ذلك النوع من الأحاسيس طيلة مسارها المهني الطويل ، أخذت أوراق الإمتحان بين يديها و راحت تمررها بين أصابعها الواحدة تلو الأخرى إلى أن وقعت عيناها على ورقة ناصعة البياض تحمل إسم و لقب ذلك التلميذ الجالس لوحده في المقعد الأخير ،

لم تمر سوى بضع ثوان حتى تحجرت نظراتها و كأن عقارب الساعة توقفت لتتحرك مكانها ذكريات قديمة مثقلة بالمواجع و الآﻻم ، عبارة قصيرة لم تتعد كلماتها حدود سطر واحد كانت كافية لزعزعة الفؤاد من مكانه ، نظرت الأستاذة أمينة إلى سؤال الإمتحان المكتوب على السبورة ، تمعنت فيه جيدا و عيناها تغالب الدموع : " تحدث في سطور عن مأساة وقعت لك في حياتك " ، أعادت النظر مرة أخرى في العبارة القصيرة التي كتبها هشام ، حاولت أن تتجلد بالصبر و تكتم إحساسها الأليم لكن عيناها خانتاها من جديد ، " بعد رحيل الأم تهون كل المآسي و الأحزان " ، شعرت بعمق المأساة التي يخفيها هشام في قلبه ، لقد باتت تعرف منذ تلك اللحظة سبب إنطوائه و عزلته و عزوفه عن مخالطة أقرانه .

دق جرس المؤسسة ليعلن نهاية وقت الحصة الدراسية و بداية حياة جديدة بين الأستاذة أمينة و تلميذها هشام الذي حرك في وجدانها ذكريات طفولتها الأليمة التي عاشتها هي الأخرى محرومة من دفء و حنان الأم ، رجعت بها ذاكرتها إلى تلك الليالي الحالكة و إلى أيام المحن التي كابدتها في الصغر مع زوجة أبيها ، لم يخرجها من شروذها الحزين سوى ضجيج التلاميذ و هم يهمون بالخروج من قاعة القسم ، كان هشام كعادته من أواخر المغادرين ، نادت عليه و هي ﻻ تعرف ما الذي ستقوله له بالضبط ، هل ستقدم له عبارات العزاء أم تواسيه في مصابه الجلل الذي ألم به و هو ﻻ يزال صغيرا أم تستفسره عن أسباب كتابة ذلك الجواب الحزين .

وقف هشام بجانب المكتب في هدوء ، إنحنى برأسه نحو الأرض ليتحاشى النظر في وجه أستاذته ، كان يعلم في قرارة نفسه أن سبب الإستدعاء هو ما كتبه على ورقة الإمتحان
سألته عن أحواله و أحوال عائلته ثم راحت تحدثه عن الحياة و الموت و الصبر و المصير ، ظل واقفا هناك في مكانه يصغي بإمعان إلى ذلك الحديث المستفيض ، كان بين الحين والآخر يحرك رأسه كلما سألته إن كان يعي ما تقول ، لم يتفوه بكلمة واحدة إﻻ حين أخبرته بأنها هي الأخرى عاشت يتيمة منذ طفولتها بعدما توفيت والدتها في يوم وﻻدتها ، رفع هشام حينها رأسه لأول مرة و نظر في وجه أستاذته قائلا :
" أمي ﻻ زالت على قيد الحياة "

ماذا ؟ أمك ﻻ زالت على قيد الحياة ؟ .
نعم .
" إذن ما الذي دفعك يا ولدي إلى كتابة ذلك الجواب الذي يوحي بأنك يتيم الأم " ؟ ظل هشام صامتا و هو يحاول كبح جماح دموع ملأت جفون عينيه الصغيرتين ، أخذ نفساً عميقا ثم أخبرها بأنه ضحية زواج فاشل . نظرت إليه بعيون الأسف و الأسى ، حاولت أن تقنعه بأن وضعيته ليست صعبة للغاية كما يتصور و بأنه يمكن له يوما أن يرى أمه من جديد ما دامت على قيد الحياة أو يذهب حتى للعيش معها عندما تحين الفرصة ، إنفلتت بعض قطرات من الدمع من عين هشام ، صمت قليلا ثم قال لها و هو يكفكف بيديه الدموع التي نزلت على خده :
" أريد أن أراها و لو مرة واحدة في حياتي لكن لا أحد يريد مساعدتي " .

لم يتمالك نفسه من شدة حزنه الدفين فأطلق العنان لدموع غزيرة ما كان لها أن تسيل لوﻻ كلمة طﻻق مشؤوم عجل بها القدر المحتوم ، إنفطر قلب أستاذته حزنا على سعادته التي رحلت عنه مبكرا و لم تخلف وراءها سوى الدموع و الجراح ، نهضت من مكانها و إحتضنته بقوة واعدة إياه بالوقوف إلى جنبه حتى يلاقي أمه من جديد . نزلت كلماتها على قلبه كالبلسم الشافي لكل الجراح . لم يسبق له طوال حياته أن سمع أحداً يعده بمساعدته في البحث على أمه التي لم يرها منذ سنين طويلة ، نظر في وجه أستاذته فتراءى له نور كشف عن قلبه تلك الغمة التي صاحبته منذ أمد بعيد . رن جرس المؤسسة معلنا نهاية فترة الإستراحة ،

كان على هشام أن يلتحق بقاعة أخرى لمتابعة دروسه لكن الأستاذة أمينة التي كان من المفروض أن تعود إلى بيتها بعدما أنهت ساعات عملها المبرمجة في تلك الأمسية طلبت منه أن يرافقها إلى قاعة الأساتذة ليروي لها قصته بكل تفصيل ، لقد تأثرت كثيرا بحالة تلميذها الحزين فقررت فعل كل ما بوسعها لعل الحياة تشرق على قلبه من جديد ، في طريقهما إلى قاعة الأساتذة عرجا على القاعة التي كان هشام سيدرس فيها حصته التالية ، صافحت الأستاذة أمينة صديقتها أستاذة اللغة الفرنسية و أخبرتها بأن هشام سيتغيب عن حصتها ، دار حديث قصير بينهما لم يسمع منه هشام شيئا لكنه فهم من خلال نظرات أستاذته بأن قصته كانت محط ذلك الحديث الخاطف .

دخل إلى قاعة الأساتذة برفقة أستاذته ، كانت أول مرة في حياته تلج قدماه تلك القاعة التي بدت له كصالون من صالونات المنازل المخصصة للضيوف ، أشارت إليه أستاذته بالجلوس إلى جانبها و طلبت منه أن يحكي لها قصته منذ البداية دون أن يهمل أي تفصيل .
صمت هشام لحظات طويلة بدا و كأنه يحاول أن يرتب في ذاكرته كل الأحداث التي مرت عليه في حياته ، أخرج محفظة نقود صغيرة من جيبه ، سحب منها بهدوء صورة فتاة جميلة فإنزلقت بعض قطرات من الدمع على خده ، تلك كانت صورة أمه التي ظل يحتفظ بها في جيبه لسنين طويلة .

أخبر أستاذته و هو يحمل صورة أمه بين يديه بأنه كثيرا ما يسافر لوحده أيام الأحد إلى مدينة بركان و يقضي هناك ساعات طوال تائها بين الشوارع بحثا عن أمه دون أن يحالفه الحظ في العثور عليها ، شعرت أستاذته بأسى بالغ و هي تتخيله يسافر إلى بركان بصحبة آمال تفوق الجبال ثم يعود إلى وجدة حاملا معه آﻻم قلب تركه وراءه هناك حيث يعيش حلمه الجميل .
"" يتبع ""

تاريخ النشر: 22-01-2020 م