ليلة في باريس الجزء الثاني


ليلة في باريس الجزء الثاني

المصدر : عبد الكريم السالمي

أخبر هشام أستاذته و هو يحمل صورة أمه بين يديه بأنه كثيرا ما يسافر إلى مدينة بركان لوحده أيام الأحد و يقضي هناك ساعات طوال تائها بين الشوارع بحثا عن أمه دون أن يحالفه الحظ في العثور عليها ، شعرت أستاذته بأسى بالغ و هي تتخيله يسافر إلى بركان بصحبة آمال تفوق الجبال ثم يعود إلى وجدة حاملا معه آﻻم قلب تركه وراءه هناك حيث يعيش حلمه الجميل . تابع هشام حديثه عن أمه التي لم يرها منذ أن كان عمره ست سنوات ، عادت به ذاكرته إلى بعض اللحظات التي لا زالت عالقة بذهنه ، تذكر كيف كانت تحمله بين ذراعيها و هي تصرخ طالبة المساعدة

يوم إنسكب إبريق شاي ساخن على صدره مسببا له حروقا بليغة ، أخبر أستاذته بأنه ﻻ يزال بين الحين والآخر يسمع صدى صراخ أمه يتردد في أذنيه .
وضع صورة أمه داخل محفظة النقود الصغيرة ، أعادها إلى جيبه من جديد و راح يتحدث عن حياته و كيف أنه يعيش غريبا وسط أفراد عائلته و إن كانوا جميعا يحبونه أكثر من أنفسهم و يهتمون بشأنه إلى درجة تجعله يشعر بأنه ﻻ ينقصه في هذه الحياة أي شيء سوى رؤية أمه .
فهمت الأستاذة أمينة من خلال حديث هشام الطويل بأنه شديد التعلق بجدته و أحد أعمامه ، كان يردد إسميهما كثيرا و هو يتحدث عن العطف و الحنان و الإهتمام البالغ الذي يحظى به في حياته

إلا أنها ﻻحظت تجنبه الحديث عن والده الذي لم يذكره و لو مرة واحدة في حديثه ، كان عليها أن تعرف سبب ذلك الإقصاء حتى تتجلى لها بوضوح كل معالم قصة تلميذها المعذب في حياته ، إنتقت كلماتها بعناية تامة و هي تسأله عن والده :
"أريدك يا هشام أن تحدثني إذا أمكن عن طبيعة علاقتك بوالدك " .
بدت على وجه هشام علامات القلق و الإستياء ، صمت قليلا ثم أخبرها بأنه طالما ما كان يطلب من والده و يتوسل إليه أن يأخذه عند أمه لكنه لم يكن يلاقي منه سوى التذمر و الرفض القاطع ، أخبرها بأن العلاقة بينهما تكاد تكون شبه منعدمة و إن كان والده ﻻ يدخر هو الآخر جهدا في التقرب إليه و توفير كل ما يلزمه في حياته من ماديات ، نظر في وجهها قائلا بخجل :

" هذا بإختصار كل شيء عن والدي و إن كنت يا أستاذتي تودين فعلاً مساعدتي فأتمنى أن تنسي أمر أبي ."
هزت الأستاذة أمينه رأسها في إشارة إلى أنها تتفهم موقفه و موافقة على عدم إقحام أمر والده فيما تنوي فعله من أجله ، لقد باتت الآن تعرف كل تفاصيل القصة ، بدا لها من خلال حديث هشام الطويل أن مفتاح السر في إعادة البسمة لحياته هو الإتصال بعمه رشيد ، سألته عن طبيعة عمل عمه فأخبرها بأنه هو و والده يديران محلا تجارياً في وسط المدينة ، كان عليها أن تجد طريقة للوصول إلى عمه دون علم أحد آخر من أفراد عائلته ، لقد قررت الأستاذة أمينه أن تقف بجانب تلميذها المعذب مهما كلفها الأمر ، كيف ﻻ و هي التي أختبرت في طفولتها معنى الحرمان من حنان الأم ،

مسحت على شعر رأسه و هي تقول :

" أخبر عمك رشيد بأنني أريد لقاءه غدا صباحاً على الساعة الثانية عشر أمام باب المؤسسة ."
إرتسمت على وجه هشام بشائر الفرحة و الإرتياح ، نظر في وجه أستاذته و طلائع الأمل تشع من عينيه الصغيرتين ، شعر و كأن نسيم الحياة ينساب برفق في عروقه من جديد ، لأول مرة في حياته يصادف شخصا يود مرافقته في رحلة البحث عن والدته .
إنتهى لقاء قاعة الأساتذة و عاد هشام ليتابع ما تبقى من حصة اللغة الفرنسية ، كان يمشي في الممر خفيف الخطى كريشة ناعمة تسبح في الهواء و نظرات الشفقة تنبعث من عيون أستاذته التي ظلت تراقبه من بعيد .
عاد هشام في ذلك اليوم إلى المنزل و قلبه الصغير يتلهف لقاء عمه رشيد ، إنتظر قدومه في آخر الليل و أخبره بأن أستاذة مادة اللغة العربية تود لقاءه غدا ،

نظر إليه عمه كعادته بعطف دون أن يسأله عن سبب ذلك الإستدعاء المفاجئ ، أخبره بأنه سيذهب للقائها غداً ثم طلب منه الذهاب إلى النوم دون أن يقلق من أي شيء ، إعتقد عم هشام بأن الأمر يتعلق بسوء إنضباط إبن أخيه أو ما شابه مما إستوجب إستدعاء ولي أمره ، لم يكن يعلم بأن موضوع ذلك اللقاء سيكون مفاجأة شديدة الحساسية إﻻ بعد أن إلتقى بالأستاذة أمينة التي كانت في الموعد ، تبادﻻ التحية و بعض العبارات المعتادة عند أول لقاء ، دعته إلى الجلوس في سيارتها المركونة أمام باب المؤسسة بعد أن طلبت من هشام بأدب أن يتركهما لوحدهما .
ما كان على هشام إلا أن يسمع كلام أستاذته ، إبتعد عن السيارة ،

أسند ظهره إلى حائط و راح ينتظر بقلق ما سيسفر عنه ذلك اللقاء ، لم يكن يفكر في تلك اللحظات الأولى سوى في ردة فعل عمه لكنه سرعان ما إستبشر خيرا تاركا أمره للأقدار لتفعل به ما تشاء ، هام به خياله بعيدا و الأمل يتراقص بأمنيته الوحيدة في الحياة ، لم يوقضه من حلمه الجميل سوى أشعة الشمس الحارقة في ذلك اليوم فعاد يراقب من بعيد شخصيات ذلك اللقاء المغلق الذي طال كثيرا .
بعد مرور وقت طويل إنتهت فترة المراقبة و الإنتظار ، خرج عمه رشيد من السيارة ، حاول هشام أن يستنبط شيئا من ملامح عمه القادم نحوه لكن إجتهاداته لم توصله لأي شيء ، خيم صمت طويل بينهما و هما يسيران جنبا إلى جنب في إتجاه المنزل ، وضع عمه يده على كتفه برفق سائلا إياه :

" لماذا لم تخبرني بأنك كنت تسافر لوحدك إلى مدينة بركان؟".
رد هشام في هدوء بكلمات رقيقة توحى بمدى التفاهم و الإرتباط القوي الحاصل بينه و بين عمه :
" لو كنت أخبرتك لحاولت إقناعي بعدم الذهاب إلى هناك ."
عند وصولهما إلى باب المنزل طلب منه عمه أن يبقي الموضوع سرا بينهما و ﻻ يخبر به أحدا و أن يتحلى بالصبر إلى حين الوصول إلى حل يناسب الجميع .
تبددت المخاوف من قلب هشام و إستبشر خيرا بكلام عمه ، شعر و كأن صفحة جديدة بدأت للتو في حياته .

مرت أيام و أسابيع تغيرت فيها حياة هشام نحو الأفضل ، عادت الإبتسامة إلى وجهه و تخلى عن بعض عزلته و إنطوائه ، كانت الأستاذة أمينة تتابع بدقة ذلك التغير الحاصل في حياة و دراسة تلميذها فعقدت العزم مرة أخرى على الوقوف بجانبه حتى النهاية .
شارفت السنة الدراسية على الإنتهاء ، قريبا سينتقل هشام لمتابعة دراسته في الثانوية ، لم تعد تفصله سوى أيام قليلة و سيودع إعداديته التي قضى فيها أربع سنوات و يودع معها أستاذته أمينة التي أعادت إليه الأمل و زرعت في قلبه حب الحياة من جديد لكن كل ذلك الوداع لم يكن يشغل بال هشام في شيء ، كان همه الوحيد هو أن تحافظ أستاذته على موقفها و يحافظ عمه على وعده لعل شمس القدر تشرق يوما ما في وجهه هناك حيث يعيش حلمه الوحيد ،

لم يكن أمامه في ذلك الوقت سوى الصبر و الدعاء في إنتظار أن ينجح عمه رشيد في إقناع والده و أفراد عائلته بالسماح له برؤية والدته ، سألته أستاذته ذات يوم عن جديد قضيته فأخبرها بأنها ﻻ زالت حبيسة إرادة عمه و بأن صبره فاق حدود الإنتظار فطمأنته بأنها ستزور عمه في مقر عمله و تتقصى عن الأمر بنفسها طالبة منه أن يتشبث بالأمل و يتحلى بمزيد من الصبر .
إنتهت السنة الدراسية إنقطع بعدها الإتصال بين هشام و أستاذته ، أخبره عمه ذات ليلة بأن أستاذته قامت بزيارته و بأنه شرح لها من جديد حساسية الموضوع و ضرورة التحلي بالصبر في إنتظار ساعة الفرج .

مرت أيام و أسابيع و هشام يخلد للنوم كل ليلة و هو يمني نفسه بأنه سيستيقظ ذات صباح على خبر يثلج صدره و يزرع الفرحة في قلبه ، شارفت العطلة الصيفية على الإنتهاء و هشام ﻻ يزال ينتظر قدوم ساعة الفرج التي تأخرت كثيرا ، بعد طول إنتظار تأكد بأن عمه فشل في إقناع عائلته...عادت روحه المعذبة إلى حياة اليأس و الإحباط من جديد فمالت زهرة الأمل التي زرعتها أستاذته في قلبه نحو الذبول ، لم يبق في حياته ما يستحق الإنتظار ، لقد بات يعرف بأن عمه ﻻ يريد أن يفجع قلبه بإستحالة رؤية أمه من فرط إشفاقه و خوفه عليه .
حل موسم الدخول المدرسي و إنتقل هشام إلى الثانوية لمتابعة دراسته بعيدا عن أستاذته التي كانت تشد من أزره و تدعوه للصمود ...

تغيرت الأجواء من حوله و لم يعد يشعر بأدنى رغبة في متابعة مشوار الدراسة فكان أن ودع مقعده قبل أن يكمل شهره الأول ، لم يعرف أفراد عائلته بالخبر إﻻ بعد توصلهم برسالة إنذار ، حاولوا إقناعه بشتى الطرق لكنه ظل مصرا على موقفه ، تأزمت علاقته بوالده الذي مارس عليه كل الضغوط في محاولة لإرغامه على العودة إلى صفوف الدراسة ، لم ينفع مع إصراره تودد و ﻻ نصائح عمه رشيد . مات في نفس هشام كل شيء جميل ، لم يعد يأبه لحياة أحد و لم يعد يعير لحياته أي إهتمام ، رمى بنفسه في حضن الإدمان و إكتفى بالعيش تائها بين حنين الذكرى و مواجع الأيام ، زاد من غربته بعده عن الدراسة و دفعه التمرد على وضعه الحزين إلى هاوية الإنحراف و تعاطي المخدرات .

كان عمه رشيد يتابع وضع إبن أخيه ببالغ الأسى و الحزن ، لقد بات يعرف بأن بحبحة العيش التي ينعم بها هشام ﻻ تكفي لإدخال السعادة إلى قلبه ، فشلت كل النصائح و كل محاوﻻت الإقناع و لم يعد أمامه سوى الإتصال بالأستاذة أمينة في محاولة منه لإنقاذ إبن أخيه من الهلاك ، إنتظر خروجها ذات مساء من الإعدادية و أخبرها بالوضع الخطير الذي آل إليه أمر هشام .
حز في نفس الأستاذة أمينة كثيرا ما سمعته من أخبار عن تلميذها المعذب ، لم تشعر إلا و هي تحمل عمه كامل المسؤولية عن ضياع حياة إبن أخيه ، أخبرته بأنها تعرف مأساة هشام أكثر منه و من عائلته لأنها جلست معه و إستمعت إليه و عرفت ما يريد و ما ﻻ يريد ،

أفهمته بأن هشام ﻻ ينوي تركهم و ﻻ الإبتعاد عنهم كل ما يحلم به هو رؤية أمه و زيارتها من وقت لآخر ، واجهته بحقائق أخطائهم في حق ذلك الطفل المسكين المقبل على الحياة بروح معذبة و قلب مكلوم ، إستمرت في محاورته حتى أقنعته بمرافقة إبن أخيه إلى مدينة بركان إن أراد إنقاذ حياته من جحيم الضياع .
لم يعد أمام عم هشام سوى الإعتراف بأخطاء عائلته و الإنصياع لنصيحة أستاذة إبن أخيه ، سألها إن كان بإستطاعتها مرافقتهم إلى مدينة بركان فوافقت من دون تفكير أو تردد ، قدم لها خالص شكره و إمتنانه على موقفها النبيل ثم إقترح عليها صباح يوم الأحد القادم كموعد للسفر إلى مدينة بركان ، كان شوق الأستاذة أمينة لرؤية الفرحة على وجه تلميذها يفوق كل وصف إلى درجة بدا لها الموعد بعيدا ،

صمتت قليلا ثم طلبت منه السفر إلى بركان غدا صباحا مباشرة بعد خروجها من العمل ، تفاجأ عم هشام من لهفة أستاذة إبن أخيه فإستحيا من نفسه ، علم أنها كانت على حق لما قالت له بأنها تعرف مأساة إبن أخيه أكثر منه و من عائلته ، لم يكن أمامه سوى قبول طلبها و التعجيل بالسفر إلى مدينة بركان ، جدد لها عبارات شكره و إمتنانه ثم إستأذنها بالإنسحاب بعد أن أكد لها إلتزامه بموعد الغد لكنها أشارت إليه بالإنتظار ، أخبرته بضرورة الجلوس مع هشام قبل موعد السفر ، سألته إن كان يعرف مكان تواجده فأومأ لها برأسه و الأسف يختبئ خلف نظراته ، كان هشام في ذلك الوقت يداوي جراحه بسموم المخدرات في ركن أحد المقاهي التي إعتاد التردد عليها منذ أن ترك أقسام الدراسة ، لم يكن يعلم بأن أستاذته التي لم تتخلى عنه هي في طريقها إليه حاملة في يدها تلك الهدية التي طالما إنتظرها طوال حياته ، لم يكن يعلم بأنه سيسافر غداً إلى مدينة بركان للقاء أمه التي غابت عنه منذ زمن بعيد .
"" يتبع ""

تاريخ النشر: 27-01-2020 م